بعد حمل الإنسان الأمانة أخبرنا الله عز وجل أنه حضّر جميع البشر قبل إيجادهم في الكون، وأشهدهم على وحدانيته –تبارك وتعالى- : “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” (الأعراف:172) وهذا ما سماه السلف بعهد أو ميثاق الذر.

لماذا لا أتذكر حمل الأمانة ولا عهد (ميثاق الذر)؟

حمل الأمانة

لو كان الغيب مشهودا ومحسوسا وحاضرا في ذهن الجميع لما كان الغيب غيبا.

أليس القرآن يخبرنا بأننا –البشر- ارتضينا بحمل الأمانة ويخبرنا بمشهد ميثاق الذر؟!

فلماذا لا أتذكر هذين المشهدين الذين وقفت فيهما أمام الله تعالى وسألني عن حمل أمانة التكليف فوافقت، ثم شهدت أنه لا إله إلا هو؟!

هذا من الأسئلة المشروعة جدا التي تطرح عند الاستدلال بهاتين الآيتين، وهو من الأسئلة الجيدة في رأيي.

وسبب عدم تذكرنا يتلخص ببساطة في أنه لو كان كل إنسان يتذكر أنه وقف أمام الله عز وجل، وشهد أنه لا إلاه إلا هو، ثم وُجد هذا الإنسان في الأرض في زمان ومكان ما، لما كان هناك إمتحان أصلا، فجوهر الاختبار يتعلق بالإيمان وجوهر الإيمان يتعلق بالغيب، فلو كان الغيب مشهودا ومحسوسا وحاضرا في ذهن الجميع لما كان الغيب غيبا؛ وبالتالي لم يكن هناك معنى للاختبار أصلا، ولسقط مفهوم حرية الاختيار من الأساس، فإذا كانت الذات الإلهية والحق المطلق والدار الآخرة معلومة علم اليقين لجميع البشر، فأين يكون الاختبار؟!

ومثال ذلك: أننا إذا افترضنا أن مجموعة من الطلاب دخلت قاعة الامتحان، وبدأ الامتحان، لم يجز لأحد من الطلاب أن ينظر إلى المرجع الذي ذاكر منه إلا بعد أن يفرغ من الامتحان، أما خلال الامتحان فلا يمكنه النظر إلى المرجع؛ لأن النظر إلى المرجع يلغي مفهوم الامتحان من الأساس.

لذلك (فإن عجزنا عن إدراك عالم ما وراء المحسوس ليس نقصا عند إيمانويل كانط، بل هو شرط ضروري لقيام الأخلاق، ولو كان الإنسان يطلع على المطلق مباشرة لما كان حرا ومختارا في أفعاله.)

بالتالي لم يجز لنا أن نتذكر هذا المشهد الذي حدث في عالم الذر حتى يصبح للاختيار معنى، وههنا نقطة مهمة؛ إذ أن ميثاق الذر ليس –وحده- حجة مستلزمة للعقاب على من لم تبلغه الحجة الرسالية، فالحجة التي تستلزم التكليف والجزاء لا تقوم على الإنسان إلا ببلوغه رسالات الأنبياء التي تدعوه ليؤمن بالله وحده لا شريك له، فإذا أطاع أثيب، وإذا عصى عوقب.

فالإيمان يقوم على الدليل. نعم؛ ربما تزيد الدلائل فيزيد الإيمان واليقين، لكن لن يكون أبدا الغيب مشهودا بالحواس، وإلا لسقط مفهوم الإيمان ذاته، وما أشبه من ينادون اليوم برؤية الغيب بحواسهم حتى يؤمنوا به، بأقرانهم الذين قالوا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقبله سألوه لموسى عليه السلام فذكرهم الله في القرآن: “يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً…” (النساء:153) ، وهؤلاء يطمعون في المستحيل، (ولو أنهم عقلوا معنى الألوهية لما كان هناك محل لهذا السؤال).


المصدر: كتاب/ لماذا نحن هنا؟، إسماعيل عرفة، مركز دلائل، الطبعة الثانية.

[ica_orginalurl]

Similar Posts