إذا كانت الحواس والتجربة والتفكير من أهم أدوات تواصلنا مع الكون، فإن الروح هي أداة معرفة الله ورؤيته، رؤية لا تعرف التجسيد ولا التحييز كما يريدها الملحد وكأن الله مادة من مواد الطبيعة، محاولة فاسدة عبر تاريخ الإنسانية أن تُخضع عالم الغيب لقوانين عالم الحياة الدنيا، ثم يتحول جهل الملحد بقوانين عالم الغيب إلى كراهية وإنكار له…

أ.د. عبد الباسط هيكل**

اب وولده

تحكي القصة أن طفلا سأل أباه يوما: “إنك يا أبى تتحدث كثيرا عن الله.. فأرنى الله؟”!

كتب توفيق الحكيم قصة قصيرة تحمل هذا العنوان “أرني الله” وتحكي أن طفلا سأل أباه يوما “إنك يا أبى تتحدث كثيرا عن الله.. فأرنى الله” ففكر الأب في نفسه.. كيف أجعله يرى ما لم أره، وطلب الابن من أبيه أن يذهب ليرى الله ثم يُريَه إياه.

وفى طريق الأب للبحث عن رؤية الله استوقفه الكاتب أمام ثلاثة أصناف من البشر: صنف هم عوام أهل الدنيا الذين تعجبوا من مطلبه وسخروا منه، فهم مشغولون بأعمالهم الدنيوية عن مثل تلك التساؤلات، وصنف هم رجال الدين الذين أخذوا يحدثونه بالنصوص المحفوظة فلم يخرج منهم بطائل، فتركهم يائسا حتى دلّه شيخ على ناسك هَرِم لا يسأل الله شيئا إلا استجاب له.

 ذهب إليه الرجل، وطلب منه أن يدعو الله له فيراه، فقال له الناسك إن الله لا نراه بحواسنا بل يتكشف لروحك متى أحبك سبحانه وتعالى، فسأل الرجل الناسك أن يدعو له الله أن يحبه الله، فدعا له أن يرزقه نصف ذرة من محبة الله.. ومضت الأيام ولم يعد الرجل إلى بيته، فبحثوا عنه فوجدوه ناظرا إلى السماء قائما على صخرة، يتحدثون إليه فلا يجيب.. فقال الناسك: كيف يسمع كلام الآدميين من كان في قلبه مقدار نصف ذرة من نور الله.. ثم قال إن نصف ذرة من نور الله تكفى لتحطيم تركيبنا الآدمي وإتلاف جهازنا العقلي.

فجعل الحكيم رؤية الله نوع من الكشف الصوفي تصل إليه الأرواح متى صفت ورقّت وأحبت فارتقت إلى حضور أنوار الله في نفوسها، فرؤية الله نور يشرق على النفوس الصادقة المخلصة في محبتها، فإذا كانت الحواس والتجربة والتفكير من أهم أدوات تواصلنا مع الكون، فإن الروح هي أداة رؤيتنا لله، رؤية لا تعرف التجسيد ولا التحييز كما يريدها الملحد وكأن الله مادة من مواد الطبيعة، محاولة فاسدة عبر تاريخ الإنسانية أن تُخضع عالم الغيب لقوانين عالم الحياة الدنيا، ثم يتحول جهل الملحد بقوانين عالم الغيب إلى كراهية وإنكار له، “فالإنسان عدو لما يجهل”.

معرفة الله في غيبه

معرفة الله

أول طريق معرفة الله في غيبه هو الإيمان بأننا لا يمكننا أن نحيط به، وأن طريقنا إلى معرفته روحا تصفو فترقى إليه شعورا وسلوكا.

 أول طريق معرفة الله في غيبه هو الإيمان بأننا لا يمكننا أن نحيط به، وأن طريقنا إلى معرفته روحا تصفو فترقى إليه شعورا وسلوكا يسمو فيكون مرآة للكمال والجمال المطلق منعكسا ومقيدا فيه.. وأول طريق الإنسان لرؤية الله أن يسلّم بأنه لا يمكنه الإحاطة بذات الله، تتجلى رؤية الله في معرفة صفاته فهو الظاهر بأفعاله.. الباطن بذاته سبحانه، متعالٍ عن المكان فلا يتحيز في حيز ولا يتجسد في شكل، ومتعالٍ عن الزمان خارج أزمنة البشر الحاضرة والماضية والمستقبلة.. حضوره مطلق عن أي قيد زمني فهو أول قبل خلق الزمن والعالم، وآخر بعد فناء كل شيء، فالكون ظواهر تتبدل وتتغير من وجود إلى فناء، وحياة تنتهى إلى موت وقوة إلى ضعف، حالة مستمرة في العالم المحدود بالزمان والمكان فوق العالم متعالٍ عليه فالله يُبدّل ولا يتبدل..

وهذا فيه من الإشارات والرموز الأقرب إلى عالم الكشف الصوفي منها إلى عالم البحث العلمي والاستنفار الفكري الذى نريد أن نتخذ منه وسيلة للإجابة عن سؤال “أين الله” نحاول أن نكتشف وجوده من عدميته، هل هناك أول قبل المادة وآخر بعد فنائها، لا نريد أن نبحث عنه في النصوص المقدسة في نفوس المؤمنين بها، المشكوك في مصدرها في نفوس المنكرين لها، نريد أن نبحث عن الله في هذا الكون وبتلك النفس الباحثة بملكاتها العقلية والشعورية عن الحقيقة، ونُفسح المجال للعلم ليتحدث عن الله..

___________________________________________

** أستاذ اللغة العربية وآدابها المشارك بجامعة الأزهر الشريف – جمهورية مصر العربية

[ica_orginalurl]

Similar Posts