الواقع أن انهيار الأخلاق أشد خطرًا على المسلمين من احتلال الأرض، أو من الوقوع في براثن هيمنة القوى الدولية الكبرى، أو في شراك الاستبداد المحلي…

د. حازم على ماهر* (تنشر السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

الأخلاقيعد الجانب الأخلاقي من أبرز جوانب القوة الحضارية المضيعة في الأمة الإسلامية، إلى جوار عقيدتها ووحدتها وتعاضدها كالبنيان المرصوص؛ فالأخلاق مكون رئيس من مكونات الإسلام وشريعته الخالدة تحديدًا، وتأتي في مرتبة وسطى بين العقيدة والمعاملات، حيث تنطلق من الأولى لتُراعى في الثانية، كما أنها هي المعيار على تمكن العقيدة من القلب، وإلا فإن العمل سيختل مكذبًا إيمان المفارق للأخلاق.

وقد يستنكر البعض ذكر الأخلاق في سياق حالة الهزيمة الحضارية التي تعيشها الأمة الإسلامية باعتبار أنه إذا كانت الأمة قد تخلفت عن الركب الحضاري المادي فإنها لم تتخلف قط في الجانب الأخلاقي –بحسب هذا الرأي- بل ظلت متفوقة على غيرها من الأمم، حتى في ظل احتلالها عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، ثم بعد أن انزاح الاحتلال العسكري المباشر لأراضيها، فإن الأمة بقيت لأخلاقها الريادة.

والواقع أن هذا الدفع مردود من وجهتين:

الوجهة الأولى: أن فكرة التفوق الأخلاقي للأمة الإسلامية تستبطن في الغالب جانبًا واحدًا أو جانبين من جوانب الأخلاق، عادة ما يتركز عليهما الخطاب الإسلامي المعاصر نتيجة تركيز النظر على العالم الغربي المهيمن، مثل الجانب المتعلق بانحراف العلاقات الجنسية والجانب المتعلق بتناول المسكرات ولعب الميسر، وتتغافل عن قيم أخلاقية قد تكون أكثر أهمية من سابقتها، مثل: الأمانة والرحمة والعدل والمساواة والتواضع وإتقان العمل والصدق والإيثار والوفاء والمثابرة والمداومة على فعل الخيرات وسلامة الصدر من الأضغان وإصلاح ذات البين، وغيرها من المقومات الأخلاقية التي من دونها لا ينهض فرد ولا تقوم حضارة.

الوجهة الثانية: وهي مترتبة على التغافل عن شمول الأخلاق للسلوك الإنساني على الوجه السابق، وتتمثل في عدم إدراك حقيقة أن الأمة الإسلامية تسير في طريق الانحدار الأخلاقي منذ قرون عدة، أي قبل عصر الاحتلال الأوروبي للدول العربية والإسلامية، وإن كان هذا الاحتلال قد كشف عنه ثم سارع في وتيرته حتى بلغت الأمة مبلغًا مأساويًا في انهيار الثوابت الأخلاقية إلى درجة أن كثيرًا من الشرور باتت ترتكب علنًا دون إنكار يذكر، ولو بالقلب وحده!

والواقع أن السقوط الأخلاقي أشد خطرًا على المسلمين من احتلال الأرض، أو من الوقوع في براثن هيمنة القوى الدولية الكبرى، أو في شراك الاستبداد المحلي، وإن كانت هذه الهيمنة الاستبدادية من الخارج والداخل ليست بريئة تمامًا من إحداث ذلك السقوط، ولكن علينا أن نتساءل:

ما الذي أوقع المسلمين وأضعفهم حتى صاروا ضحايا لتلك الهيمنة ومن ثم بدأوا يفقدون الكثير من تفوقهم الأخلاقي على غيرهم من البشر؟

بمعنى آخر، علينا أن نتساءل عن مدى الارتباط بين القابلية للاستضعاف (وهو المصطلح الذي اختاره ليعبر –بشكل أوسع- عما قصده مالك بن نبي بمصطلحه: “القابلية للاستعمار”) وبين الانحدار الأخلاقي، وأن نطرح -كذلك- تساؤلات أخرى حول هذا الانحدار وعوامله المتشابكة التي أسهمت في تناميه المستمر حتى كاد أن يقترب من مرحلة الهاوية.

ونظرًا لأن سلوك الإنسان تحكمه أفكاره ومعتقداته بالأساس، فإن التركيز على التساؤلات التي تتعلق بالأسس الفكرية لهذا الانحراف الأخلاقي الواسع -المشار إليه- قد تكون أهم من غيرها، مثل تلك التي قد تنتج عن الفقر (قرين الكفر) والترف مثلا، باعتبار أننا لا نزال نرى مجتمعات كثيرة تحتفظ بثوابتها الأخلاقية رغم ابتلائها بالفقر أو بالترف المفضي للفساد بمعناه المعنوي قبل المادي.

علينا إذًا الحفر في الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية، ومحاولة الإجابة عن التساؤلات المرتبطة بذلك، مثل: هل هناك صلة ما بين النكبة الأخلاقية التي تشهدها الأمة الإسلامية وأزمتها الفكرية؟ وما طبيعتها إذا وجدت؟ وكيف نشأت؟ وما حجم تأثيرها؟ وهل هناك من أمل في التخلص منها؟

سأحاول مناقشة هذه التساؤلات حول الجذور الفكرية للانحدار الأخلاقي في العالم الإسلامي في مقالات مقبلة، من دون تجاهل عالمية هذا الانحدار التي قد تصل إلى تهديد الجنس البشري بالفناء ما لم يسارع المثقفون المخلصون بالتحذير من هذا الخطر المحدق الذي ظهرت بوادره وتفشت بوائقه، لاسيما وقد أسفر عن وجهه القبيح وبات مهددًا للفطرة الإنسانية، التي أحاطت بها المفاسد من كل مكان، ومع ذلك لم يتحرك الإنسان لمقاومتها بالقدر الكافي، بل جاهر بها مفتخرًا ومعتقدًا أنه يسير على طريق قويم سيأخذه إلى السعادة الأبدية!

وقبل الختام ينبغي التأكيد على أن الأمل في مقاومة الفساد الأخلاقي لا يزال قائمًا ولا يمكن أن ينتزعه أحد من الصدور، خصوصاً لمن سار في الأرض وأمعن النظر في تاريخ البشرية وعلم أنها كثيرًا ما عانت من أزمات كبرى ومتنوعة استطاعت أن تتجاوزها بفضل الله ومعونته، وهو ما نرجوه ومن أجله نصر على طرح القضية للنقاش الإيجابي الذي يرنو إلى الإصلاح لا إلى التوبيخ والتقريع وبث اليأس في النفوس.

_______________________________________

*كاتب وباحث مصري

[ica_orginalurl]

Similar Posts