د. إيهاب عبد السلام

إن المتأمل لمشاهد السيرة النبوية يدرك جيدا أن ما صدر من الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصدر إلَّا من نبيٍّ مرسل من الله رب العالمين، وليس من مجرد مُصْلح من المصلحين، فهناك فرق كبير بين الدوافع التي تحكم أداء المصلح دون ارتباط بمنهج سماوي، وبين النبي المرسل المكلف برسالة سماوية، وأخصُّ هنا بعض مواقفه من الكفار الذين حاربوه، ونقاط الخلاف بينهما.

إن مراجعة تلك المواقف الآن تثبت لغير المؤمنين بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن إلا رسولا من الله تعالى، ثم إنها تزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم، وأعرض هنا تأملًا لأمرين.

الأمر الأول

لم يكن المجتمع الذي نشأ فيه محمد –صلى الله عليه وسلم- شرًّا محضًا لا خير فيه البتة، ولم يكن الرسول متضررًا من ذلك الشر ضررًا يجعله يبحث عن مخرج له ولرفاقه من سوء ذلك المجتمع إلى خير يأتي به وحي من السماء..

بل إن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان من المكرَمِين بين أهله وقومه قبل أن يجهر بدعوته، كما تشهد بذلك سيرته وتاريخه، وقد فتحت الدعوة عليه بابًا من الأهوال لشد ما اشتد، وعانى منه وأصحابه الكثير، ولم يكن النبيُّ صاحب سلطانٍ فيفرض دعوته بالقوَّة، ولم يكن فقيرًا مُعدَمًا فيقالُ: إن دعوته ثورة الفقراء.

وكان مجتمع الجاهليين في قريش عند الكعبة وما حولها مجتمعًا آمنًا، وإن لم يكن مؤمنًا، بل كان يؤمن بآلهةٍ متعدِّدَة، وقد أحبُّوها وتعلقوا بها إيمانًا منهم بأنها تقربهم إلى الله رب العالمين، وقد توارثوا تلك العقيدة عن آبائهم حتى رسخت في نفوسهم.

والكعبة هي بيت الله قبل الإسلام وبعد الإسلام، وقد اختلف زعماء القبائل فيمن ينال شرف حمل الحجر الأسود قبل أن يبعث محمد رسولًا إكرامًا لهذا الحجر، حتى قضى محمد –صلى الله عليه وسلم- بينهم بأن يحملوه جميعًا على ثوب، فحسم الخلاف وأرضى الجميع. وعندما جاء الإسلام أكرم ذلك الحجر، وجعل الطواف حول الكعبة يبدأ وينتهي به، وجعل استلامَهُ وتقبيلَهُ سُنَّةً وكرامَةً.

لقد كان ذلك المجتمع يفتقد التوحيد، ومنهجًا سماويًّا، ولكنه لم يكن يحارب دعوات الإصلاح، وسنِّ القوانين، وتنظيم الحقوق والواجبات، على نحوِ ما كان في حِلف الفضول، الذي أرسى قاعدة الدفاع المشترك وردِّ الظلم ونصرة المظلومين، خاصة الغرباء الوافدين على مكة، وقد باركت الأغلبية هذا الاتفاق، وحضره الرسول –صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه، وقد ذكره بالخير وامتدحه بعد أن صار نبيًّا مرسلًا.

أقول: إن مجتمع الجاهلية لم يكن شرًّا محضًا، بل إن دعوات الإصلاح كانت لا تعدم التأييد، ما دام ذلك الإصلاح لا يتعرض للأصنام بسوء؛ ولو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- ذلك المصلح من ذات نفسه لدعا إلى ما دعا إليه دون حاجة إلى نسبة ذلك إلى الله رب العالمين والدعوة إلى تحطيم الأصنام، فتحطيم جميع الأصنام كان أمرًا مرفوضًا بشدة من القرشيين والرسول يدرك ذلك جيدًا، فتلك هي القضية التي شغلت كفار قريش، ولم يعترضوا على شيء اعتراضهم على التخلي عن أصنامهم.. لقد قبلوا من النبي كُلَّ شيء حتى أن يكون أغناهم وأن تكون له الرئاسة عليهم.. أمَّا ترك الأصنام فلا، والعبقرية المجرَّدَة من النبوة تستدعي ألا يستعدي الرجل القوم جملة واحدة، ونبذُه الأصنام استعداهم أيما استعداء، ولم تكن تلك الأصنام تعوق الإصلاح الذي يدعو إليه النبي، ذلك الذي يتمثل في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلم تكن تلك الأصنام تدعو إلى شر ولا خير، والنبي –صلى الله عليه وسلم- يدرك جيدًا أنه سيحارَب أشد الحرب إذا دعا إلى تحطيم الأصنام، فأهل مكة يدركون أنه -كما يقول الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي: «لئن كانت أصنام الكعبة ضلالًا حقًّا، فسينصرف العرب عن زيارة الكعبة خلال الأشهر الثلاثة الحرم، وسيحرم الأغنياء مصدرًا كبيرًا للغنى.. وسيفقدون بسقوط الأصنام كل هيبتهم وسلطانهم. سيبذلون كل ما يملكون ليكذبوه ويعذبوه ولينفوه هو من الأرض، قبل أن ينفي عنهم مبرر بقائهم سادة أغنياء.. أو لم يتوقع ورقة بن نوفل هذا كله؟!».

ولو كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يدعو من تلقاء نفسه لما بدأ بما يستعدي أهل مكة عليه خاصة السادة والأغنياء، بل ما احتاج إلى أن ينسب ذلك إلى الله رب العالمين، وكان سيكتفي بأن يُنَصِّبَ من نفسه صنمًا بجوار تلك الأصنام، فقد عرضوا عليه الرياسة فيما عُرِضَ من إغراءات فداءً للأصنام؛ ولكن الأمر لم يكن بيده بل أُلْقِيَ إليه إلقاءً، وكان كما وصفه القرآن الكريم: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلَا} [المزمل: 5].

ولم يكن النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- يعلم  أنه سيكون رسولًا من الله رب العالمين ولم يخطط لذلك مطلقًا، يقول الله تعالى: {وَمَا  كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ (87) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 86 – 88].

هكذا نجد القرآن يحذره كما يحذر غيره من الناس فما هو إلا بشر رسول مكلف بالتبليغ حتى إنه بعدما بلَّغَ ما أُمِرَ به.. قال وكأنه يتنفس الصعداء في آخر حياته: “اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد”. بل إن صورة محمد في بداية الوحي وهو المزمل المدثر الواجل الخائف الذي لا يدري ما يُصْنَع به، لتوحي إلينا بحجم المسئولية التي ألقتها عليه الأقدار دون اختيار منه أو سابق ترتيب.

الأمر الآخر

لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل مساومة من أحد في نشر دين الله، وتبليغه للناس، وكان هذا كل ما يعنيه؛ أن يسمع الناس كلامه، فما عليه إلا البلاغ، فكان يحرص على أن يقابل القبائل التي تفد إلى مكة في المواسم، فيقول لهم كما ورد في السيرة النبوية لابن هشام: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به».

وكانت أكثر القبائل لا تكتفي بالرفض، بل كانوا يردون ردًّا قبيحًا، والرسول لا يبالي إلا بأن يبلغهم.

وذات مرة، أقبل فيمن أقبل بنو عامر بن صعصعة، فعرض عليهم النبي ما يعرضه على القبائل من الإيمان، فقال رجل منهم اسمه (بيحرة بن فراس بن صعصعة): والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال للنبي: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك..؟

إن العبقرية المجردة من النبوة تجعل الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يتردد في قبول ما عرضه بيحرة، فالنبي في ذلك الحين ضعيف يفتقد القوة والعزوة والحماية من البشر، وقد واتته الفرصة بأن يتبنى بنو عامر بن صعصعة دعوته وحمايته بفرسانهم وعتادهم. ولكن النبي قال له: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» ذلك رد نبي لا رد مجرد إنسان عبقري يريد شيئًا لنفسه، فهو لم يَعِدْهُ ولم يَحْرِمْهُ، وإنما ردَّ الأمر إلى الله تعالى وقد علمه الوحي ذلك؛ علمه أن يكون عزيز النفس حينما يدعو الناس إلى الله، في مثل قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجر: 17].

لم يكن بيحرة يزن الأمور بميزان الإيمان والكفر، وإنما وزنها بميزان المصلحة الدنيوية، وكأنه أدرك بأن ذلك الفتى سينتصر بهم، ثم سيكون أمره إلى قومه بعد ذلك، فاشترط أن يكون الأمر إليهم وفيهم لا لغيرهم، ولما سمع رد النبي –صلى الله عليه وسلم-  قال له: «أفنهدف نحورنا للعرب دونك – أي نجعل رقابنا هدفًا – فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك».

لقد رفضوا نصرته حين رفض مساومته على ما لا يملك أن يمنحه لقوم دون آخرين، فالمؤمنون جميعًا لديه سواء، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر والعزة، إن نصروا الله وأيدوا رسوله وثبتوا على دينهم، فكيف يعد رسول الله بذلك قومًا أو قبيلة دون أخرى؟.

——

* المصدر: الوعي الشبابي.

[ica_orginalurl]

Similar Posts