لعلي أعيش تساؤلاتك، لأدرك علماً لم أكن لأدركه لولا الوقوف على انبهارك بزيف فكرة الإلحاد : هل يعقل أن أكون أنا الإنسان، ذلك الكائن الرائع، صاحب الإمكانيات الواسعة، والقدرات المذهلة، هل يعقل أن أكون في وجودي بلا هدف وبلا غاية! ولا معنى لحياتي سوى العيش والموت للفناء!

(مقتطف من المقال)

د. أمل القواسمي

الإلحاد

ما هو دوري في الوجود؟ الحشرة في هذا الكون لها دور تقوم به، وبانعدامه يختل النظام البيئي، وأنا الإنسان علي الاكتفاء بحياة بيولوجية طبيعية حتى تنتهي أنفاسي ويحين موتي.. آكل وأشرب وأرتع وفق أهوائي، تضيق دائرتي الأخلاقية وتتسع تبعاً لمصالحي وملذاتي!

تساؤلات، أو لعلها شكوك متتابعة، قد يتجرأ بالجهر بها أحياناً، وقد يخشى القيل والقال، فيكتمها في صدره أحياناً أخرى: ولدت لأسرة تؤمن بوجود الله وتوحده، فلماذا علي أن أتبع دين آبائي وأجدادي؟ لماذا يلزمني أن أؤمن بما يؤمنون؟ هل الله موجود أصلاً؟ ألا يكفي أن نحيا حياتنا هذه ونموت وينتهي الأمر؟

وأياً كان دافعه لهذه التساؤلات، وبغض النظر عن تصنيف الناس له، شجاع جريء، أم ملحد منحرف، فإن العلم والمعرفة حق للجميع، والسؤال مفتاح العلوم، لذا كان من حقه الحصول على الإجابة، كما أن من واجبه البحث عن الصحيح الصادق منها.

وهنا أتساءل بدوري: من ألزمك باتباع دين دون أن تؤمن به؟! فالإجبار على المعتقد والإيمان أمر غير واقع، إذ لا سطوة ولا سلطة لأحد على قلبك وعقلك، وهما محل الإيمان والمعتقد، فعن أي إلزام تتحدث! فكونك من أسرة مؤمنة بوجود الله لا ينقلك إلى دائرة هذا الإيمان إلا إذا كنت مؤمناً حقاً.

فلعلك تقصد إذن عدم إدراكك لمعاني الإيمان بوجود الله الواحد، لأستدرك عليك مرة أخرى: وما يمنعك من البحث عنها، والعلم بها؟! فشأن عظيم في حياة الإنسان كشأن الإيمان بوجود الخالق، ليس حكراً على أحد، ولا يلزمك أن تصبح عالماً متبحراً في علوم الدين، أوفيلسوفاً من الفلاسفة حتى تؤمن بوجود الله.

ومع الإقرار بدور العلم في الوصول إلى الحقيقة، إلا أنها مع ذلك أقرب إلى الفطرة السوية، فما عليك سوى أن تحترم عقلك، وتنعش قلبك، واحرص على ألا تكون إمعة تناقض ذاتك: حيث تنكر على الناس إيمانهم بالتقليد، وإذ بك تقلد غيرك إلحاداً وإنكاراً لوجود الله.

ولا أظنك تتساءل لتثير زوبعة من التمرد على المألوف، لتحظى بالاهتمام والتألق، فلن يسطع نجمك الآفل سوى برهةً إلى جانب الكم الهائل مما يهم الناس ليصرفهم عنك، لتبقى وحيداً مغموراً في ظل شكوكك.

وأرجو ألا تدعي خوفاً من إظهار تساؤلاتك، فوكالات الأنباء العالمية ستصدّر خوفك للعالم، لتدعم حرية معتقدك، في حين سيبقى حال من يقتل يومياً لإيمانه وتوحيده لله، في ملف التاريخ، ليحظى بطي النسيان، وكأن مسألة حرية الاعتقاد مكفولة لكل من لا يعتقد!

أم تراك قد ثقلت عليك التكاليف الدينية، أو لعلك تراها تقييدات تراثية، ليضيق بها جدول أعمالك اليومية؟ فالتمست لنفسك عذراً، وذهبت في تساؤلاتك مذهب الباحث عن الحقيقة، وليتك تكون كذلك، لتدرك متأخراً عمن سبقك أن النذر اليسير من يوم المؤمن يمضيه في صلاته ودعائه، كان عوناً له على باقي مهامه في سائر يومه.

ويستوقفني هنا في شأنك أنك تسعى في دنياك ليلك ونهارك لتتحصل على مصلحة لك، دون أن تجد من يعترض عليك، لتستكثر أنت على المؤمن التزامه بتكاليف يعتقد هو يقيناً أنها تحقق مصلحةً له أيضاً! لكنك حرصت على مصالح دنياك، وسعى هو لدنياه وآخرته.

زيف فكرة الإلحاد

ولعلي أعيش تساؤلاتك، لأدرك علماً لم أكن لأدركه لولا الوقوف على انبهارك بزيف فكرة الإلحاد: هل يعقل أن أكون أنا الإنسان، ذلك الكائن الرائع، صاحب الإمكانيات الواسعة، والقدرات المذهلة، هل يعقل أن أكون في وجودي بلا هدف وبلا غاية! ولا معنى لحياتي سوى العيش والموت للفناء!

ما هو دوري في الوجود؟ الحشرة في هذا الكون لها دور تقوم به، وبانعدامه يختل النظام البيئي، وأنا الإنسان علي الاكتفاء بحياة بيولوجية طبيعية حتى تنتهي أنفاسي ويحين موتي.. آكل وأشرب وأرتع وفق أهوائي، تضيق دائرتي الأخلاقية وتتسع تبعاً لمصالحي وملذاتي!

مهلاً، فالعديد من الملحدين يؤدون دوراً إيجابياً في عالمنا الواسع، يساعدون الإنسان والحيوان، وحتى الشجر والحجر، مشاريع إنسانية وأخرى بيئية، تستحق الاحترام والتقدير، ولم يثنهم إلحادهم عن فاعليتهم تجاه كل من حولهم!

لكنّ فارقاً دقيقاً هنا يفرق الملحد عن المؤمن بالله، ذلك المؤمن الذي نرى بصمته في ميادين شتى، تجمعها راية الخيرية والرحمة، هذا الفارق يسمى الدافعية، يتشكل من إيمانه بأنه وجد أصلاً على هذه الأرض ليعمرها وينشر الخير فيها، استخلفه الله في الأرض لمهمة رائدة لا يملك أمامها الخيار أو التواني، بل عليه الانطلاق، وتلزمه المبادرة لكل ما فيه خير وقوام هذه الحياة، فالمؤمن الصادق يدفعه إيمانه للإنجاز، وتلزمه عقيدته بإعمار الأرض، والإصلاح فيها، وليس الحال كذلك مع الملحد، فهو يفعل ما يفعله تكرماً وتفضلاً منه، لا واجباً واستحقاقاً، عليه أن يلتزم به كالمؤمن.

لكن ليس ما نراه من حال الكثيرين ممن يؤمنون بالله على هذا الوجه من الإيجابية والبناء!

بل على النقيض، فكم من الملحدين المنصفين، وبمكارم الأخلاق معروفين، وكم من المؤمنين بوجود الله، أشراراً ومعتدين!

ويتجه القول هنا إذا كان الإلحاد هو من سبّب تلك الخيرية، أو كان الإيمان بوجود الله أدى إلى ذلك الشر، والأمر ليس كذلك: فالإلحاد يشترط عليَّ إلهاً على مقاسي، أو لعلّه على مقاس غيري، المهم أنه يتحدد ويتشكل وفق الرغبة البشرية، متى وافق الخير مزاجه تابعه، ومتى ناسبه أن يتحلى بجميل الأخلاق أتى بها، وإلا فهي شريعة الغاب، والقوي يأكل الضعيف، حيث لا احتكام إلا إلى هوى النفس البشرية المفعمة بالغرائز والرغبات، بلا قيد أو شرط، هكذا وجدت وعلى هذا تفنى.

وما أرى مع هذه الحال إلا أن الإلحاد قد أنكر وجود الله الواحد ليحل مكانه تتابعاً عبر التاريخ من الآلهة البشرية، ممن نصّبوا أنفسهم أسياداً يرتعون ويجولون بلا رقيب أو حسيب، في حين يحيا الرقيب في القلوب المؤمنة بوجود الله، في الحال وفي المآل، لأنها وإن وقعت في المحظور بحكم بشريتها، أو أساءت في أخلاقها وتعاملها، أدركت أنها محاسبة على فعلها بمقتضى إيمانها، عاجلاً في الدنيا، أم آجلاً في الآخرة.

وتستمر سلسلة التساؤلات “لكن الله لو كان موجوداً لما وجد الشر والظلم، ولما عانى أحد من الجوع أو المرض، فالإله يستطيع أن يوجد الخير، والخير فقط!” فأجيبك أن المؤمن بالله يؤمن بأنه قدير وعظيم، وهو أيضاً حكيم وعليم، خلق الأشياء وضدها، لضرورة معرفة قيمتها، والسعي لتحقيقها، فالشر يجعلك تدرك قيمة الخير، والظلم يدفعك لتقديس قيمة العدل، والجوع يحثك على العمل لأنك تدرك قيمة الاستكفاء، بل إن لذة الشبع تكون في أقصاها بعد الشعور بالجوع، وفرحة نشر الخير لا تأتي إلا بعد الانتصار على الشر، والاطمئنان والرضا بتحقيق العدل لا يتحقق إلا بعد محاربة الظلم، كل هذه القيم تظهر وتعرف بوجود ضدها، فهو الحافز المحرك للإنسان الذي هو مؤهل أصلاً بقدراته وإمكانياته للسعي والعمل لتحقيقها والحفاظ عليها.

ومن هنا أتفق معك بالاعتراض على من يتخذ إيمانه بالله تعالى مبرراً لحالة من الوهم يعيشها، فإن أدرك عرضاً من الدنيا، قال “إن الله يحبني فأعطاني”، وإن حرم منها أمراً بإهماله وتقصيره، قال “إن الله ابتلاني”، لكنني مع هذا افترقت عنك، ومايزت بين مقتضى إيماني، وسوء إدراكهم، ولم أذهب مذهبك بالإلحاد لمجرد أن أناساً لم يدركوا سنن الله في الحياة، فكانت فكرة إيمانهم مبرراً لتكاسلهم وتواكلهم، فليس امتلاك كنوز الدنيا علامة على حب الله، ولا ضياعها بالضرورة ابتلاءً منه سبحانه لعباده.

نعم، أدرك بإيماني أن الدنيا بأسرها ابتلاء وامتحان من الله تعالى، لكنه امتحان بالعمل والاجتهاد وفق سنن الكون والحياة، أفهمها، أتفاعل معها، وامتلك مفاتحها، واجتهد لإدراك مبتغاي فيها، فالنجاح والإنجاز لكل من سعى له سعيه.

وبعد كل هذه الحوارات أدرك أن للإلحاد دوائر ومتاهات، قد تسير وفق المنطق والعقل تارة، وقد تتبع سبل العناد أوقات، ولا أملك حملك على الإيمان بوجود الله رب الأرض والسماوات، لكني أدعوك لتبحث عنه في كل ما تراه من حولك من مخلوقات، وأن تحرر عقلك وقلبك، ففيهما من إبداع الخالق آيات.


المصدر: بتصرف يسير عن موقع مدونات الجزيرة

[ica_orginalurl]

Similar Posts