د. حازم علي ماهر

اقرأ باسم ربك وتدبر!

انتهت المقالات السابقة، التي تُعنى بنكبة (الوهن) الذي ملأ قلوب كثير من المسلمين في عالمنا المعاصر، إلى أن الخروج من هذا الوهن يستلزم أن يعمل المسلم على أن يصلح من صورته الذهنية المشوهة عن نفسه في نظره هو ذاته أولا قبل أي أحد، ليتخلص من الإحباط الذي يزيد من استضعافه من قِبَل المتسلطين عليه، وأن يجلس جلسة –أو جلسات- مصارحة مع نفسه ليراجع حقيقة نياته وحالاته مع الله ومع النفس ومع الآخرين، يتبعها بتوبة نصوح عن ضعفه واستكانته تجاه شهواته وتجاه تسلط المستكبرين عليه، يعزم خلالها على أن يبدأ من جديد رحلة العزة، والتي بينَّا أنها تبدأ بإعادة الصلة بالله على وجه صحيح وفعال عبر الاهتمام بإقامة الصلاة بخشوع لتنهاه عن اتباع الشهوات التي سيعزم منذ ذلك الحين على مجاهدتها كي لا يقع في أسرها أبدًا.

إن هذا الإنسان المسلم الذي نفترض الآن أنه استعاد صلته بالله عز وجل على الوجه الصحيح، واسترد ثقته بنفسه، تنتظره مرحلة بالغة الأهمية في رحلته للتخلق بخُلق العزة المحمود الذي سيحل محل خُلق الوهن المذموم، وهي مرحلة القراءة بعمق وتمعن في كتابي المولى عز وجل؛ المسطور (القرآن الكريم) والمنظور (الكون)، والتفكر فيهما وتدبرهما قبل التحرك الفعلي لمواجهة واقعه المهين، وهو أمر أساسي فتحت الباب أمامه توبته الصادقة –المفترضة- من كبيرة الوهن ومن غيرها من الذنوب.

ذلك أن المولى عز وجل أخبرنا بأن المانع من التدبر هو إقفال القلوب بالمعاصي والذنوب، فتُحرم من الرؤية المبصرة والفهم الواعي للقرآن الكريم ولأحكامه ولآياته الكريمة، حيث قال تعالى: “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” [محمد: 24]، وهو الأمر الذي يستنبط منه أن التدبر ينبغي أن تسبقه التوبة من الذنوب التي تغلق القلوب، وهو الأمر الذي نفترض أنه قد قام به المسلم الذي بدأ رحلة تخلصه من وهنه.

والحقيقة أن التدبر الأهم بصدد حديثنا عن الوهن والعزة، هو التدبر في حقيقة خلق الإنسان ورسالته في هذه الحياة، وفي قيمة الدنيا ومكانتها بالنسبة للآخرة، حيث إن الخلل الأكبر المودي للوهن يتمثل في المبالغة في حب الدنيا وفي تقدير قيمتها هي وما تحتويه من نعم مادية تغري الإنسان وتغويه فيتنازل من أجلها حتى عن حريته، ومن ثم عن عزته وكرامته مستهدفا الحصول على تلك النعم أو الاحتفاظ بها مهما كان الثمن.

وليس هناك من مرجع موثوق لبيان تلك الأمور أكثر من كتاب الخالق عز وجل، فكل ما ورد في غيره من اجتهادات إنسانية لقصة الخلق هي مجرد تخمينات غير مترابطة ولا منطقية ومن ثم فهي تشوش على الحقيقة وتضلل الباحثين عنها بدلا من أن تهديهم إليها، ومن ثم فإن (المريد) للعزة الذي لا يقرأ القرآن بعين التدبر، ولا يتفكر في الكون وخلقه وسننه سيفتقد الهدى والرشاد ويتخبط في الحياة الدنيا فيخيب سعيه ويزداد وهنًا على وهن!

ويمكن تلخيص قصة الخلق كما وردت في القرآن الكريم، والتي يقرأها معظم المسلمين في كل عام مرة على الأقل (في شهر رمضان غالبًا!)، لا بهدف التعريف ولكن للتذكير، ولبيان حقيقة الدنيا التي أذلت الرقاب وفرقت الأصحاب وأبغضت الأحباب إلى الأحباب، في أن الإنسان قد اختار بإرادته الحرة –دونًا عن الخلق- أن يتحمل أمانة التكاليف الشرعية لتكون له حرية الاختيار بين الالتزام بها طواعية فتكون له الجنة خالدًا فيها أبدًا، أو رفضه القيام بها عمدًا، فتكون النار هي مصيره خالدًا فيها أبدًا، وأنه سيقابل العديد من الفتن في طريقه؛ منها: أن إبليس وذريته سيكونون أعداء له حتى يوم القيامة وسيغويه على أمل أن يصاحبه إلى جهنم والعياذ بالله، حقدًا وحسدًا، ولكن سيظل كيد الشيطان ضعيفًا على عكس الشهوات التي جبل الناس على حبها وفق ما جاء بقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ…} (جزء من الآية رقم 14 من سورة آل عمران).

أما الشيطان فتكفي الاستعاذة بالله منه، وأما الشهوات فقد ركز المقال السابق على بيان مدى ضرورة جهادها للتخلص من الوهن، ولكن الأهم الآن أن نبين أن شهوات النفس، ونزغات الشيطان، هي مجرد جزء من سلسة الفتن التي سيتعرض لها الإنسان لامتحان صدق إيمانه من عدمه، وذلك هو جوهر ما أريد التركيز عليه واستحضاره جيدًا؛ إدراك أن هذه الدنيا ككل هي بمثابة معمل للاختبار (أو لجنة للامتحان) يتعرض فيه الناس كلهم لامتحانات متنوعة وشاقة طوال أعمارهم، ليتبين منها المفسد من المصلح، ويميز فيها الخبيث من الطيب، ومن ثم الخاسر من الفائز، تمهيدًا لمحاسبة كل منهما وإيواء المفلح الذي قاوم الفتن ما ظهر منها وما بطن، في جنة الخلد، ورمي الخاسر في جهنم وبئس المصير.

هذا الأمر –الذي يكاد يعلمه كل المسلمين بالضرورة- يغفل عنه كثير من الناس في خضم زحام الحياة الدنيا وانشغالاتها وفتنها، فإذا بهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، ويوقنون بالموت ولكنهم يكرهونه فيتناسونه، ويتذكرون فقط الدنيا وزينتها، مع أنها مجرد ممر للآخرة، فبدلا من تركيزهم على الإجابة إذا بهم يلتهون عنها بالدنيا، فيهينون أنفسهم للحصول على زينتها والاستمتاع بالراحة والدعة فيها!

ولا يعني ما تقدم التحقير من الدنيا في عين الناس، بل -فقط- تصغيرها في قلوبهم لتصل إلى الحجم الطبيعي لها، الذي يدفع الإنسان إلى اتخاذها وسيلة للفلاح الأخروي الأبدي، لا غاية في حد ذاتها وكأنها لا نهاية لها، ومن ثم يدرك أنها لا تستحق المذلة والهوان لأحد كان؛ فملذاتها وآلامها زائلة لا محالة، والعاقبة للمتقين المتوكلين على الله المعتزين به، وهو الإدراك الذي من شأنه أن يحصن الإنسان ضد إغراءاتها ولا ينحني سوى لخالقها، فيبدأ في دراسة واقعه بعين جديدة تخلصت من غشاوات الطمع والنهم والجحود، وبقلوب صافية مبصرة تستطيع أن ترى ما خفي عن جوارحها من حقائق وتفسيرات وتحليلات لواقعها المعيش، أو لكتاب الله المنظور كما يعبر عنه البعض بحق.

وللحديث بقية.

——-

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة(

 

[ica_orginalurl]

Similar Posts