لن يحدث تقريب حقيقي بين سلوك المسلمين ومبادئ الإسلام وقيمه الأخلاقية إلا بعد تحرير المفاهيم الإسلامية مما علق بها من معان مضللة، ثم إعادة تعريفها إجرائيًا بما يتضمنه ذلك من وضع خريطة تفعيلية لكل منها في عقول الناس وفي سلوكهم وفي واقعهم، لتحقق مقاصدها، لاسيما مقصد تحسين الأخلاق التي بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتمم مكارمها…

د. حازم علي ماهر* (تنشر السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

الأخلاق

لن يتحقق التحرير المنشود للدعاة إلا بإعادة الاحترام والهيبة للمؤسسات الدعوية الإسلامية ولعلمائها من خلال خطوات عملية عاجلة.

نستكمل اليوم استعراض بعض الشوائب والتشوهات التي أسهمت في إساءة فهم الإسلام ومن ثم في اتساع الفجوة بين المسلمين وبينه، بعد أن تحدثنا في المقالة السابقة إلى عاملين أسهما في إحداث هذه الفجوة، وهما: الخلط بين الإلهي والبشري، وتوظيف الإسلام، وذلك على الوجه الآتي:

الأخلاق.. ونكبة الفجوة بين المسلمين ودينهم!

ثالثًا: الخلل في الدعوة الإسلامية- مفهومًا ومؤسسات ودعاة:

تعد الدعوة الإسلامية من المجالات التي تسبب إساءة فهمها وتطبيقها في تشويه الإسلام نفسه في أذهان الناس، حتى بدا للبعض وكأنه «شيطان دموي مخيف»، على عكس حقيقته كدين ملائكي رحيم يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القرب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ومرجع ذلك -بغض النظر الآن عن الدور الإعلامي البارز الذي يستهدف تشويه الإسلام والحط من شأنه لإحكام السيطرة على المسلمين- إلى أن بعض الدعاة تغافلوا عن أن الأساس في الدعوة الإسلامية هو العمل الصالح –الصامت- غالبًا الذي يجذب الناس للالتزام الديني بهدوء وروية، لا رفع الأصوات بشعارات لا تجد تجسيدًا في حياة من يصرخ بها، مما ينفر المدعوين من هؤلاء الدعاة وما يدعون إليه فيهجرونهم إلى اتجاهات أخرى بعضها قد يكون معاديًا للدين غير أنه يكون متسقًا في أخلاقه مع ما يدعو إليه فيكتسب ثقة الناس مع بطلانه في جوهره.

من أجل ذلك فإن من الأهمية بمكان إصلاح حال الدعوة الإسلامية لتعتمد على التزام السلوك الأخلاقي الرشيد من الدعاة -وهم سائر المسلمين بالمناسبة؛ فكل مسلم داعية للإسلام في محيطه- وهو أمر سيتحقق بتحرير الدعاة أنفسهم باستقلاليتهم وبتمكينهم من العيش الكريم الذي يحفظ كراماتهم الإنسانية، ويرفع عنهم الإصر والأسر والهدر والقهر!

وهذا التحرير المنشود للدعاة لن يتحقق إلا بإعادة الاحترام والهيبة للمؤسسات الدعوية الإسلامية ولعلمائها من خلال خطوات عملية عاجلة تتعلق بفض تبعية المؤسسات تلك لأي جهة تستغلها، سياسيًا أو اقتصاديا، أو بأي وجه من أوجه الاستغلال غير الشرعي الذي يجعل منها أداة نفعية مادية قد تصد الناس عن دينهم بأكثر مما تهديهم إليه، فهذه المؤسسات لا تقل أهميتها عن مؤسسة القضاء -على سبيل المثال- والتي تتمتع باستقلالية مالية وإدارية عن الدولة تمكنها من القيام بعملها على خير وجه من دون أن يكون على قضاتها سلطان غير ضمائرهم ونصوص القانون.

غير أنه لابد من مراعاة مبدأ بالغ الأهمية في كل الأحوال، تعبر عنه مقولة خالدة، وهي: «لا كهنوت في الإسلام»، أي أن الإسلام يخلو من وجود أي واسطة بين العبد وربه، فضلا عن أن مصادره مستقلة عن أي جهة كذلك، لها السيادة على جميع السلطات البشرية، وهي الميزان لا الموزون، بمعنى أنها هي الحَكَم بين الناس لا هؤلاء الأشخاص الموقعين عن رب العالمين ولو كانوا مستقلين ومخلصين!

رابعًا: افتقاد الرشد والفعالية في التعامل مع المفاهيم الإسلامية:

لعل هذا الخلل من أبرز ما يتسبب في إقامة حواجز عالية بين المسلمين ودينهم، وقد سبقت من قبل الإشارة إلى إساءة فهم مصطلحات إسلامية أساسية، كمصطلح الإسلام نفسه، والعبادة والعمل الصالح، مما أدى إلى فصلها إلى حد كبير عن مضامينها الحقيقية ومن ثم أعاق قدرتها على الإصلاح، بل وتشوه مفهوم الإصلاح ذاته ليُحمَّل بمعان تضليلية تسهم أكثر في ابتعاد الناس عن روح الإسلام ومقاصده، مثله مثل مفاهيم الفلاح والتقدم والنجاح، فباتت جميعها مشبعة بمعانٍ نفعية مادية ترتبط بتحقيق مصالح عاجلة تفسد الآخرة!

ومن الطبيعي أن يترتب على تشويه المفاهيم الإسلامية وتشويشها، جمود الحركة من أجل تفعيلها أو التحرك عكس مراميها وغاياتها، فتجد مفهوم الجهاد نفسه الذي شرع بقصد حماية الدين والنفس والمال والعرض والعقل والنسل، تحتج به جماعات عميلة لأعداء الإسلام، بالاتفاق أو بالغباء، أو بكليهما معًا، في الاعتداء على كل ما شرعت أحكام الإسلام لحمايته، فيهلكون الحرث والنسل بحجة نصرة الدين والدفاع عنه!

والواقع أنه لن يحدث تقريب حقيقي بين سلوك المسلمين ومبادئ الإسلام وقيمه الأخلاقية إلا بعد تحرير المفاهيم الإسلامية مما علق بها من معان مضللة، ثم إعادة تعريفها إجرائيًا بما يتضمنه ذلك من وضع خريطة تفعيلية لكل منها في عقول الناس وفي سلوكهم وفي واقعهم، لتحقق مقاصدها، لاسيما مقصد تحسين الأخلاق التي بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتمم مكارمها.

كما أن علاج الأسباب التي تقف وراء الفجوة بين الإسلام والمسلمين لا تكفيها بعض الكلمات أو الأطروحات النظرية، على أهميتها، بل لابد من النظر دومًا إلى النواحي العملية التشغيلية، خصوصا الأصول المرجعية التي انطلق منها المسلمون وبنوا حضارتهم الكبرى التي لا تزال باقية وستظل محفوظة إلى قيام الساعة، ولا تحتاج إلا إلى إعادة القراءة بمنظور مقاصدي تفعيلي، يعيد للأخلاق الصدارة من جديد كهدف رئيس ومدخل لأي نهوض حضاري إنساني شامل متكامل.

وستحرص المقالات المقبلة من تلك السلسلة قدر الإمكان على تقديم مقترحات عملية للقضاء على كل أزمة من أزماتنا الأخلاقية بعد مناقشتها وبيان أسبابها.

للاطلاع على بقية مقالات السلسلة يمكن للقارئ الكريم النقر على العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

__________________________________

*باحث وكاتب مصري

[ica_orginalurl]

Similar Posts