أبو معاذ محمد الطايع

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا 1293377771إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد..

فإن نعمة الله – تعالى – على هذه الأمة مما لا يحصر ولا يعد، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 18]، وهي سنة من سنن الكون، كما أنَّ التجديد والتجدُّد، والتطوير والتطوُّر سنَّةٌ إلهيَّةٌ لاستمرار الحياة.. وبدونها لا تكون حياةٌ ولا استمرار لهذه الحياة.. حتى الإسلام -وهو منهج الله تعالى ورسالته الخاتمة- تجري عليه هذه السنَّة، التي هي من أسباب استمراره وحفظه، والتي أشار إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به بقوله: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.

قال ابن القيم -رحمه الله-: «ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ له من يجدد أعلامه، ويُحيي منه ما أماته المبطلون، ويُنعش ما أخمله الجاهلون، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه، ولكن الله ذو فضل على العالمين».

ولئن كان الناس في أسفارهم يَهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر، فإن العلماء هم نجومُ الهداية، بهم يهتدي السالكون إلى الله والدار الآخرة، فهم مناراتٌ يُهتدى بها، وإذا غابت النجوم ضل الناس وتاهوا في دياجير ظلمات البر والبحر، وإذا غاب العلماء عن الساحة ضل الناس وتخبّطوا في ظلمات الشُّبُهات والشهوات.

وتجديد الدين هنا ليس هو استحداث أحكام أو منهج، بل هو إحياء ما ذهب من العمل بالكتاب والسنة، وإحياء السنن التي ماتت بإظهار البدع والمحدثات، فيرزق الله -سبحانه وتعالى- من هذه الأمة علماء جبالا يجددون لها ما اندرس من دينها؛ فلله دَرُّهم في الإمامة والحكم، ولله دَرُّهم في العلم والتعليم، ولله دَرُّهم في ساحات الوغى والجهاد.

من هؤلاء:

1- عمر بن عبد العزيز: (61 – 101هـ = 781 – 720م)

وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، أبو حفص: الخليفة الصالح، والملك العادل، وربما قيل له: خامس الخلفاء الراشدين تشبيها له بهم. وهو من ملوك الدولة المروانية الأموية بالشام. ولد ونشأ بالمدينة، وولي إمارتها للوليد. ثم استوزره سليمان بن عبد الملك بالشام.

وولي الخلافة بعهد من سليمان سنة 99 هـ فبويع في مسجد دمشق. وسكن الناس في أيامه، فمنع سب علي بن أبي طالب (وكان من تقدمه من الأمويين يسبونه على المنابر) ولم تطل مدته، قيل: دس له السم وهو بدير سمعان من أرض المعرة، فتوفي به. ومدة خلافته سنتان ونصف.

وأخباره في عدله وحسن سياسته كثيرة. وكان يدعى “أشج بني أمية” رمحته دابة وهو غلام فشجته. وقيل في صفته: “كان نحيف الجسم، غائر العينين، بجبهته أثر الشجة، وخطه الشيب، أبيض، رقيق الوجه مليحا”. وفي كتاب الإسلام والحضارة العربية: “كانت طريقته في إدارة ولايته إطلاق الحرية للعامل، لا يشاور الخليفة إلا في أهم المهمات مما يشكل عليه أمره”.

2- الشافعي: (150 – 204هـ = 767 – 820م)

محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة.

وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة (بفلسطين) وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين. وزار بغداد مرتين. وقصد مصر سنة 199هـ فتوفي بها، وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءات. وقال الإمام ابن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. وكان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة، برع في ذلك أولا كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث، وأفتى وهو ابن عشرين سنة. وكان ذكيا مفرطا. له تصانيف كثيرة، أشهرها كتاب (الأم) في الفقه، سبع مجلدات.

3- شيخ الإسلام ابن تيمية: (661 – 728 هـ = 1263 – 1328 م)

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام. ولد في حران وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة، ونقل إلى الإسكندرية. ثم أطلق فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ واعتقل بها سنة 720 وأطلق، ثم أعيد، ومات معتقلا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته. كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين. آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان. وفي “الدرر الكامنة” أنه ناظر العلماء واستدل وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين. أما تصانيفه ففي “الدرر” أنها ربما تزيد على أربعة آلاف كراسة، وفي “فوات الوفيات” أنها تبلغ ثلاث مائة مجلد.

وغيرهم، ولا يلزم أن يكون المجدد واحدا؛ بل قد يكونون جماعة، كل يجدد في جانب من جوانب الدين.

ولا ينتهي الخير من أمتنا ولله الحمد، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مثل أُمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره”؛ فالخير باق في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

ولكن لما غلب الجهل على الناس، وكان الشرك عامًّا عليهم في كثير من أمور حياتهم، بعث الله -سبحانه وتعالى- لهم عددا من الأئمة المجددين، والذين كان منهم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فجدد الله به الدين، وجلى به التوحيد، بعد أن ران الشرك على الكثيرين، وبيّن الله به السنة بعد أن انتشرت البدع، وأحيا الله به العلم، بعد أن عمَّ الجهل، ورفع الله به لواء الجهاد في سبيله، بعد أن تركت تلك الفريضة، وصارت حروب الناس تقاتلا بينهم، ونهبا للأموال وسلبا وحربا، وجهلا وظلما، واعتداء.

فَدَوْرُ العلماء كبير، وشأنهم عظيم، فهم يُبصِّرون الناس من العمى، ويدلُّونهم على ما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة، ولا أدلّ على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفسا فسأل: هل لي من توبة؟ فدُلَّ على رجل عابدٍ لكنه جاهل، فحجّر واسعا وقال: لا ليس لك من توبة، فأتمّ به المائة، ثم سأل: هل لي من توبة؟ فَدُلَّ على عالم، فقال: نعم، ومن يحول بينك وبينها، ثم زاد في إرشاده، فقال له: “انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنّ بِهَا أُنَاسا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إِلَىَ أَرْضِكَ فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ”.

أو قصة ذلك الدجّال الذي كان يدّعي علم الغيب، وذلك أن رجلا كان في مجلس أحد الخلفاء، وكان بين أيديهم صُرّة فيها دراهم فكان يخرج من المجلس ويقول: ليأخذ كلُّ واحد منكم حفنةً من الدراهم ثم يَخرج هو، ويَعُدُّ كلُّ واحدٍ ما أخذ، ثم يَدخل ويُخبرهم بما مع كلّ واحد؛ فيكون الأمر كما قال، فتعجّبوا، حتى دخل أحدُ العلماء، فأمر ذلك الدجّال أن يخرج، فخرج، ثم أدخل العالم يده في الصرة وأخرج حفنةً من الدراهم من غير أن يَعُدّها ووضعها في جيبه، وقال للدجال: ادخل، فلما دخل أخذ يُخمّن ويتوقّع فلم يدرِ كم معه بالتحديد، ثم أزال ذلك العالم اللبس، وأوضح الحقيقة بأن ذلك الدجّال يستخدم الشياطين، وكلُّ إنسان وُكِّلَ به قرين كما أخبر بذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فإذا عدّ الدراهم عدّ معه القرين، ثم أخبر قرين الساحر أو الكاهن أو العرّاف، فيُخبر بما أُخبرَ به.

فالعالم ينظر بنور الله، ويكشف الله على يديه الشُّبهات والمتشابهات.

وقد بدأت صحوة إسلامية في العالم بأسره، وتحقق الشعور بالانتماء، وتأكدت إرادة التغيير، وبدأت الصحوة منذ سنوات تراوح مكانها من حيث الفكر والممارسة، ولم تستطع تحويل الطموحات إلى إنجازات عملية ثابتة ومستقرة، وهذا يحتاج إلى إضافات فكرية جديدة وممارسات شرعية في مختلف المجالات، وهذا هو مجال التجديد والاجتهاد. وما نراه من تجارب مثيرة للجدل في بعض الأحيان في المغرب والجزائر ومصر والسودان واليمن وتركيا وماليزيا وأندونيسيا هي بدايات التجديد، وسيثبت منها الأصلح ويجازي الله -تعالى- الجميع.

ومن هنا كان قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها”؛ تعبيرا جامعا لكل تلك المعاني، فهو دالٌّ بالأصالة على تجديد البعثة بالمعنى الإرسالي؛ أعني إرسال العلماء لا الأنبياء وليس هو ابتداء وحي، وإنما هو تعليم وحي إعادةً وتجديدًا. وهو دالٌّ بالتبع على معنى الإحياء، فبعْثُ المجددين إنما هو إحياء للأمة، ونفخٌ لروح القرآن فيها من جديد، حتى تعود إليها الحياة، وتنخرط من جديد في صناعة التاريخ! ومن هنا كان قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “العلماء ورثة الأنبياء”.

 هذا المعنى العظيم تؤكده بصائر القرآن العظيم، وبشائر السنة النبوية.

ولا تكون البعثة بناءً على ذلك إلا عملية جذرية شاملة وعامة، سواء رجعت في البدء إلى شخص واحد، أو إلى عدة أشخاص، على الخلاف في تأويل معنى لفظ “مَنْ” الوارد في الحديث: “من يجدد لها دينها”؛ أهو دال على المفرد أم على الجمع؟ قلت: هو في جميع الأحوال آيل إلى الجمع، حتى لو حملناه على المفرد؛ أعني حتى لو كان المنطلق التجديدي فردا. ألا ترى أن أصل البعثة النبوية في هذه الأمة إنما هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبيا واحدا خاتما، ولكن مظاهر بعثته – صلى الله عليه وسلم – تجذرت في جيل كامل من الصحابة -رضي الله عنهم- تلك هي الموجة الأولى من البعثة الأولى، حملت دفعة الوحي قوية تحيي الموات.

وهؤلاء المجددون يستعملهم الله في إقامة الدين؛ أصوله وفروعه، وردِّ الناس إلى الجادة الصحيحة، والمَهْيَع الرشيد، حين ينحرفون عنه أو يهجرونه، وربما انتدب الله لهذا الأمر جماعة من المجددين على رأس كل قرن، بل هو الواقع، فلا تقتضي دلالة الحديث السابق أن يكون المجدد فردا، قال ابن الأثير -رحمه الله-: «والأَوْلى أن يحمل الحديث على العموم… ولا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلا واحدا، وإنما قد يكون واحدا، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة «من» تقع على الواحد والجمع، كما ذكر العلماء أن من صفة هذا المجدد وشرطه أن يأتي عليه رأس القرن وهو أوله وهو حي عالم مشهور بنصر السنة وقمع البدعة».

هذا، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وعلى أتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

المصدر: موقع الإسلام الدعوي والإرشادي.

[ica_orginalurl]

Similar Posts