انظر إلى التوحيد والاتكال على حول الله وقوته: “سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات:102) وانظر كيف يأتي الفرج مع كمال التوحيد…

محمد بن محمد المختار الشنقيطي

إن شعيرة الحج التي جعلها الله سبحانه وتعالى قاعدة من قواعد التوحيد، تدل على كلمة لا إِلَهَ إِلَّا الله من بدايتها إلى نهايتها، ومن مشعر إلى مشعر، ومن منسك إلى منسك، فالعبد يدور حول كلمة التوحيد والإخلاص.. لا إِلَهَ إِلَّا الله. أسفل النموذج

التوحيد في سعة الرحمة و الحلم

من مشاهد التوحيد التي تدل على عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفضله وكرمه؛ سعة الرحمة وسعة الحلم، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفاته أنه حليم ورحيم، فأنت إذا قرأت الحديث الصحيح عن النبي: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) علمت علماً جازماً أن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين، ومن حلمه ورحمته أنه إذا وقف أقوام ببابه لحظة من اللحظات، أراقوا فيها الدموع، وأظهروا فيها الحسرات على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فاستقالوا واعتذروا لربهم وتابوا واستغفروا فغفر الله ذنوبهم؛ بل وبدل الذنوب حسنات. أي كرم وأي فضل هذا!

والله لو تأمل الإنسان عظمة هذا الرب لأحس بقيمة هذه الحياة، فلا لذة لهذه الحياة إلا بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن عرف الله جل جلاله أقبل على الله صدق الإقبال، فأتم خشيته وهيبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحبه جل جلاله، هذا الرب الكريم، أمم تعصيه وتذنب وتسرف، ومع ذلك يبدل السيئات حسنات، فلا يغفر فقط بل يبدل الذنوب والسيئات حسنات سبحان الله ما أكرمه!

من الأمور التي يستفيدها الحاج في حجه: حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَ؛ لأنك إذا رأيت هذه الأمم كلها وعلمت علم اليقين أن فيهم المغفور والمرحوم ولربما -ونحن لا نستكثر على الله ولا نستبعد على الله وليس على الله بعزيز- أن يقول لأهل الموقف كلهم: انصرفوا قد غفرت لكم.

ولذلك في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له). من ظن بالله شراً -والعياذ بالله- كالذين يعكفون على الأشجار والأحجار والقبور، ويضيفون على أصحابها الألقاب والكلمات التي لا تليق إلا بالله جَلَّ جَلالُهُ، تعالى الله عما يقول المشركون علواً عظيماً.

هؤلاء في خيبتهم وخسارتهم لأنهم أساءوا الظن بالله عَزَّ وَجَلَ، ما عرفوا الله عَزَّ وَجَلَ، فلو عرفوه ما التفتوا إلى شيء سواه -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك إذا أحسن العبد ظنه بالله عز وجل تلقاه الله برحمته وفاز بعفوه ومغفرته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بذلك العفو والمغفرة.

التوحيد في يوم النحر

من مشاهد التوحيد: إذا كان يوم النحر الذي وصفه الله عَزَّ وَجَلَ بيوم الحج الأكبر، هذا اليوم الذي يستفتح الناس فيه رمي جمرة العقبة، فيتذكرون موقفاً من مواقف التوحيد لإمام من أئمة الحنيفية صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ.. إبراهيم الخليل، هذا النبي المُمُتحن الذي صدق مع الله فصدق الله معه.

 هذا اليوم المبارك يستفتحه العبد إذا أشرقت شمسه برمي جمرة العقبة إذا تذكر خليل الله وهو يرى في الرؤيا أنه يقتل ولده ويذبحه، أي امتحان مثل هذا الامتحان، امتحنه الله في بلده ووطنه فخرج من بلده مهاجراً إلى الله، فأبدله الله الأرض المقدسة، ثم امتحنه الله عز وجل في عشيرته وقومه فتركهم لله، فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب.

 ثم امتحنه الله عز وجل في ولده وفلذة كبده أن يذبحه”يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى…” (الصافات:102) “قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ…” (الصافات:102).

هذا هو التوحيد والإيمان.. ثم انظر إلى التوحيد والاتكال على حول الله وقوته:”سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات:102) وانظر كيف يأتي الفرج مع كمال التوحيد.

 يقول الله عز وجل: “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ…” (الصافات:103) حتى جاء في الأخبار والسير أن إسماعيل عليه السلام قال لوالده: يا أبتِ! لا تذبحني وأنا مقبل إليك، ولكن اكفني على وجهي حتى لا تنظر إلي فتدركك الشفقة، حتى الابن يعين على الإيمان والتسليم، لذلك تجد الأب إذا كان موحداً صالحاً أنشأ الله له الذرية الصالحة، والعكس أيضاً.

 ولذلك كان لصلة بن أشيم أربعة من الولد وتقدم للجهاد في سبيل الله فماذا قال هذا الأب الصالح أمام الغزو وأمام العدو- انظروا الشجاعة والإيمان التي ينبغي أن يكون عليها الموحد الموقن الذي لا يمكن أن يفلح في الدنيا إلا بهذا الإيمان الذي يورث الشجاعة- قال لأحد أبنائه وهو الكبير: تقدم يا بني! فإني أريد أن أحتسبك عند الله، أي: أريدك أن تموت أنت قبلي فأحتسبك عند الله عز وجل، هكذا كانت الأمة الموحدة الموقنة المخلصة؛ فإبراهيم عَلِيهِ الصَلاةُ وَالسَلام يقول له ابنه: “سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”  (الصافات:102) “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبراهيم. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا” (الصافات:103-105) فجاءه الفرج من الله “وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ” (الصافات:107) ففداه الله جَلَّ جَلالُهُ من فوق سبع سماوات بالإسلام والاستسلام والتوحيد، فإذا رمى المسلم جمرة العقبة تذكر هذا الابتلاء، وتذكر أنه سيمتحن في أهله وماله ونفسه وفلذة كبده، فينبغي أن يقدم ما عند الله على ما عند نفسه، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان والتسليم.

كذلك أيضاً بعد رميه لجمرة العقبة يذبح إذا كان متمتعاً أو قارناً، فإذا ذبح هديه لله جَلَّ جَلالُهُ، وهذا مشهد من مشاهد التوحيد.. وهو إراقة الدماء لفاطر الأرض والسماء، حتى إن الإنسان إذا أراق دم البهيمة قال: باِسْمِ اللهِ، الله أكبر، فسمى الله وكبر على بهيمته تأسياً برسول الله وتقرباً إلى الله عَزَّ وَجَلَ في هديه، وقع الدم عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وتأتي يوم القيامة بجلودها وشعرها و أظلافها وجميع ما فيها في ميزان العبد، لكن إذا كانت بالتوحيد كانت لله، ولم تكن لأي شيء سواه، لا تذبح لوثن ولا لشجر ولا لقبر ولا لولي، لكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إخلاصاً وتوحيداً “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام:162) أي: ذبحي، كما قال تعالى: “فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ” (الكوثر:2) فهذا مشهد من مشاهد التوحيد.

كذلك أيضاً يقف الإنسان يتحلل من هذا النسك فيحلق شعر رأسه قربة لله عَزَّ وَجَلَ وطاعة لله جَلَّ جَلالُهُ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فتدور مناسك الحج وشعائره كلها مع الإيمان والتسليم مع كمال اليقين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ذلك التسليم والإيمان.

وجماع الخير كله أن يكون عند العبد قلب حي، فإن الذكر والانتفاع بهذه العبادات يفتقر إلى نفس مؤمنة.. إلى قلب مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يتفكر ويتدبر ويتبصر، ويجد هذه المعاني الكريمة والآثار العظيمة التي تزيد من إيمانه ويقينه بالله جَلَّ جَلالُهُ. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وآخر دعوانا أن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

لمطالعة الجزء الأول من المقال يمكن مطالعة العنوان التالي:

وقفات مع التوحيد في الحج (الجزء الأول)

________________________________________

المصدر: كتاب/ التوحيد في الحج لفضيلة الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي.

[opic_orginalurl]

Similar Posts