د. حسان عبد الله
حضارتنا ليست حضارة وقت الفراغ

حضارتنا ليست حضارة وقت الفراغ

الحضارة معادلة بين ثلاثة مكونات أو عناصر لازمة التركيب معا –كما يقول مفكر الحضارة مالك بن نبي- وهذه المكونات الثلاثة هي: الإنسان، التراب، الوقت؛ فالإنسان يستخدم الأشياء (الثروة المادية) لصناعة الحضارة، وهذا لا يتم إلا في مجال زمني يسمى “الوقت”.

والوقت في حضارتنا يرتبط بعنصر آخر لا يقل عنه أهمية، وهو عنصر “العمل”. فالحضارة الإسلامية حضارة “العمل”، وليست حضارة “وقت الفراغ” التي أنشأتها الحضارة الغربية المعاصرة؛ ولذا كان أهم التساؤلات المحورية للمؤمن المسلم لقياس إيمانه هو “عمره فيما أفناه”.

والقرآن الكريم يزخر بذكر الوقت على أشكال متنوعة: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103)، {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} (التوبة: 36)، {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر: 18)، وهكذا يعتني القرآن بقيمة الوقت.

الشاهد من هذا السرد أن رؤية منظورنا الحضاري التوحيدي للوقت تختلف عن رؤية المنظور الغربي له؛ فمنظورنا التوحيدي لا يعرف «هدر الوقت» أو» قتل الوقت»، وترتبط فيه حركة المسلم ونشاطه كلها بنظام واحد حتى وإن كان ذلك الوقت هو وقت الترفيه والترويح عن النفس؛ فهو لا يتناقض مع وقت العمل بالنسبة للمسلم؛ لأنه يلبي جزءاً من كينونته وطبيعته البشرية التي عليه أن يؤديها وفق مقتضيات الخيرية والنفعية للنفس والمجتمع أيضاً.

إن قيمة الحياة تتجلى في تقدير الوقت منذ نشأتها الأولى؛ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (يونس: 3)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) (الأنبياء: 16).

إن القيمة البديلة التي يقدمها منظورنا التوحيدي لتوظيف «وقت الفراغ» هي قيمة «النفع»؛ (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17)، والنفع هنا ليس المقصود به البرجماتية الغربية التي تستأثر في باطنها الأنانية والمادية، ولكن قيمة النفع في ذلك المنظور تتجاوز الأمرين معاً: الأنانية فيكون النفع العام «الذي َيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ»، ويفيد الإنسان كل الإنسان بما يمتلك من صالحية وفعالية في آن واحد، وهو ما يشير إليه لفظه «يمكث»، كما أنه يتجاوز المبدئية المادية ليشمل كل نفع يعود على الإنسان بالخير والصلاح والهداية فيكون مادياً ومعنوياً، اجتماعياً أو فكرياً، نفسياً أو أخلاقياً.. وهكذا.

ومن الضروري أن نوضح أن قيمة العمل وقيمة النفع كمبدأين أساسيين في تحديد تصورنا التوحيدي لوقت الفراغ ليس معناهما أنهما يستبطنان العبوس، أو الملل والسأم الذي ينتاب الإنسان حال انغماسه في أدائهما؛ فالتوازن سمة أساسية لهذا التصور الذي يدرك جيداً حاجات الإنسان الأساسية والضرورية، أو بهدي النبوة؛ «يا حنظلة ساعة وساعة»(1)، فإن المسلم يؤدي كل أدواره، ويلبي كل احتياجاته الإنسانية في أكمل أشكالها وأكثرها نفعاً للذات التي تعود بنشاطها للمجتمع، وللمجتمع الذي يتمتع بوجود ذوات سوية نفسية واجتماعية متوائمة ومنسجمة مع حضارتها وثقافتها.

معايير مأسسة وقت الفراغ

من الضروري أن نشير إلى أن أمتنا في وضعها الراهن تعاني من ازدياد الفجوة بينها وبين العصر الذي تعيش فيه، وأن أداء الواجب مقدم في الأولويات الحضارية للأمة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ فإن حالة الفراغ التي يعيشها الشباب العربي والمسلم الذي أصيب بمرض التغرُّب، وتمكن من مفاصل حياته مشروع العولمة وما بعدها، لا بد أن يقدم على تأمل حالة الفراغ، وحقيقتها في حياته؛ حتى يستطيع الوقوف على الاحتياجات الحقيقية لسد هذا الفراغ.

فالشباب المسلم المعاصر يعاني من فراغات مركبة -فكرية وثقافية ودينية وحضارية شاملة– ونقصد بذلك العقل الجمعي للشباب الذي يمثل قلب المجتمع المسلم ونبضه ومؤشر حيوتيه، «إن وقت الترويح ليس منفصلاً عن الحركة الحضارية العامة للأمة، ومن ثم فإن طبيعة النشاط الترويحي في المجتمع لا بد وأن تنبثق وتتناغم مع نسيج المشروع الحضاري الإسلامي الذي تعلق عليه الأمة آمال النهضة»(2).

والترويح كمفهوم ترويجي يرتبط بمفهوم وقت الفراغ في صورته السوية، الذي يعني الوقت الذي يفرغ منه الإنسان من العمل المعيشي الذي يرتبط معه برباط ما قانوني أو غير ذلك، وهذا الارتباط يصب في مجرى آخر هو حركة الأمة ونشاطها العام.

وفي ضوء هذه الفرضية، فإن التأسيس لصناعة الترفيه وشغل أوقات الفراغ في صورتها السوية والحضارية ينبغي أن يتعاير بعدة معايير، منها:

1- من حيث الفكرة: يجب أن تنطلق صناعة الترفيه في الأمة من البحث في تحديد مقاصد البناء النفسي والفكري والتربوي الشامل الذي ينطلق بدوره من مرجعية حضارية توحيدية، ومن ثم يكون النشاط الترويحي وظيفياً يؤدي وظائف ضمن الإطار العام للمشروع الإسلامي النهضوي حتى ولو على مستواه المجتمعي/ الوطني الضيق.

وعلى سبيل المثال، فإن القراءة كنشاط ترفيهي أو هواية يمكن أن نكرس مفهومها عند الشباب والإرشاد والتوجيه إليها، بنوعية الموضوعات، والقضايا الملحة في التكوين الفكري للشباب اليوم، وتأتي خطورة هذا المثال إذا علمنا ما أظهرته بعض الدراسات المقارنة فيما يتعلق بمتوسط ساعات القراءة بين العرب والأوروبيين، حيث متوسط قراءة الفرد الأوروبي تبلغ 200 ساعة سنوياً، بينما تنخفض هذه الساعات وتتقلص إلى 6 دقائق سنوياً للفرد العربي(3).

وفي هذا المجال يصبح من الضروري إدماج مسار القراءة النافعة/ الهادفة ضمن برنامج تنمية الهوايات الفردية والجماعية الذي يمكن أيضاً أن يوضع له خارطة من أجل بناء الوعي/ توظيف الترفيه في بناء الوعي.

2- من حيث الوسائل والأدوات: باختراق الوقت من قِبَل الثقافة الغربية استطاعت حضارة وقت الفراغ أن تنشئ تلك الحاجة في الواقع الإسلامي، وأن تستجيب لتلك الحاجة بوسائل متعددة ومتنوعة من الإشباعات الاستهلاكية، وأن تؤصل لوقت الفراغ ونزعة الاستهلاك في واقع الشباب العربي، إلى حد وصل الشباب فيه إلى الانغماس في كل الوقت مع تلك الوسائل المتنوعة والمتعددة والمتجددة، وأن تكون حصيلة ذلك الانغماس أو الغرق لا شيء!

إن الوسائل والأدوات المستخدمة في شغل أوقات الفراغ كما قدمتها الحضارة الغربية المعاصرة ليست محايدة على الإطلاق، ويكمن فيها بشكل واضح اختراق القيم العربية من خلالها، وعلى سبيل المثال؛ فإن أفلام «توم وجيري» التي تجذب الأطفال إليها تحمل أفكاراً قامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة، ويحملها نموذجها المعرفي الذي يقوم على أفكار الصراع والعداوة والبقاء للأقوى، وقد أجريت دراسات عديدة في هذا الشأن أظهرت العلاقة بين عدوانية الأطفال ومشاهدة مثل تلك الأفلام، ومن هنا تولدت الحاجة إلى اختراع أدوات ووسائل محلية وذاتية تعمق قيم الانتماء الوطني والإسلامي على اتساعه وتنوعه، وتحمل قيم ثقافتها الإسلامية التي تقوم على الإعمار والأخلاقية الحضارية.

وهنا يجب أن يكون البديل لوسائل تقاوم إغراء هذه الوسائل والأدوات من ناحية، وأن تكون ملائمة للواقع الاجتماعي الذاتي، بما تشكل أرضية مهمة لإعادة بناء الهوية والانتماء بهذه الوسائل للشباب العربي مرة أخرى، ولاستعادة مجاله الحيوي للإنتاج الحضاري.

3- من حيث التنوع والشمولية: إن المختصين الإعلاميين والنفسيين والاجتماعيين مدعوون إلى طرح برنامج شامل لصناعة ترفيهية وانتزاع الشباب من براثن الانغماس في الأدوات والوسائل الغربية، هذا البرنامج ينبغي أن يلائم عدة جوانب: الطبيعة الإنسانية، والتنوع، والفروق الفردية، والشمولية، وهو في ذات الوقت يلبي متطلبات البناء النفسي والتربوي لشخصية الشباب العربي.

الخلاصة أننا في حاجة إلى طرح تربوي شامل لسد الثقوب الموجودة في برنامجنا التربوي العربي والإسلامي، فيما يتعلق بإشكالية وقت الفراغ، وبكل أشكال الفراغ التي نفذت إلى الشخصية المسلمة من خلال تلك الإشكالية، وأن يكون لدينا من المتخصصين ومن الشاب أنفسهم من يتصدون لطرح الحلول بما يتوافق مع حضارتنا ومشروعنا النهضوي المأمول.

* المصدر: بتصرف يسير من موقع المجتمع.

—–

(1) جانب من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم، كتاب التوبة، حديث رقم: 2750).

(2) جمال سلطان إشكالية وقت الفراغ.. ثقب في مشروعنا الحضاري، مجلة المسلم المعاصر، عدد 55 – 65، ص26.

(3) انظر: التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، 2010، ص310.

[opic_orginalurl]

Similar Posts