الطبيعة

إن الوجود يبدو مصمماً Designed لأنه بالفعل مصمَّم Designed، وعلى من ينكر ذلك أن يقدم الدليل على خطأ ما هو ظاهر أمامنا

بعد أن أظهرنا في الجزء الأول ما وقع في عقول الكثيرين (ومنهم القضاة الأمريكيين) من لبس حول مفهوم التصميم الذكي، بل وحول العلم! نقول ببساطة إن الوجود يبدو مصمماً Designed لأنه بالفعل مصمَّم Designed، وعلى من ينكر ذلك أن يقدم الدليل على خطأ ما هو ظاهر أمامنا. عليهم أن يثبتوا أن الكائن الذي ينبح ويهز ذيله ويبدو ككلب ليس كلباً، وليس علينا أن نثبت أنه كلب، يكفي أنه يبدو هكذا!

إن التصميم الذكي يمكن إخضاعه للتقويم العلمي بشكل أكبر من التطور الدارويني، ألم يعجز الدراونة على طرح تصور معقول (مجرد تصور) لخطوات نشأة سوط البكتيريا دون اللجوء للتصميم الذكي؟

ومن المثير للسخرية، أن الدراونة  يتهمون أنصار التصميم الذكي بأنهم ينطلقون من منطلقات أيدولوجية، بينما العكس هو الصحيح! فإن معظم من يؤيدون الداروينية لا يتمسكون بها لقوة أدلتها العلمية ( بل ربما لا يعرفون هذه الأدلة!)، ولكن لموقفهم الرافض للدين، ولإدراكهم للتبعات الفلسفية والدينية لمفهوم التصميم الذكي. هذا ما يجعل الرافضين ينفعلون ويتشنجون وتحمر وجوههم ويقفزون هنا وهناك عند الحديث عن التصميم الذكي!

غياب الدليل

ويصف الدراونة الاستدلال بوجود التصميم على وجود الإله الخالق بأنه دليل مبني على العجز عن تفسير بعض الظواهر الطبيعية (إله سد الثغرات) أي أنه “دليل مبني على الجهل” ويستندون في ذلك إلى القاعدة المنطقية  بأنه “لا ينبغي أن نتخذ من غياب الدليل دليلاً” Absence of evidence is not evidence of absence.

ونجيب على هؤلاء بما ذكرناه من قبل من أننا نقول بالإله كسبب أول وليس كحدث أول، أي لتفسير ما فسره العلم وليس ما عجز العلم عن تفسيره. كذلك فإن رفض أنصار التصميم الذكي للوقوف عند التفسيرات المادية ليس رفضاً مبنياً على نقص في المعرفة العلمية (رفض عن جهل) ولكنه (رفض عن علم).

متوالية هندسية

يكتشف العلم يوماً بعد يوم حقائق كثيرة تزيد من حيرة العلماء، حتى قيل بحق “إن العلم يتضاعف بمتوالية حسابية بينما يتضاعف الجهل بمتوالية هندسية !!”

ولنبين الفرق بين الرفضين نضرب مثالاً: إذا توصلنا بعد دراسة دقيقة لبنية الجسم البشري ووظائفه إلى أن الإنسان لا يستطيع الطيران إلا إذا استخدم آلة تُعينه على ذلك، هل يمكن أن يقول معترض: لا .. ربما يكتشف العلم بعد فترة إمكانية أن يطير الإنسان دون الاستعانة بآلة. هل رفضنا لهذا القول راجع إلى نقص المعرفة العلمية (جهل) أم أنه رفض عن علم؟

إن الدراونة يبحثون عن التفسير المادي لنشأة الظواهر ذات التعقيد غير القابل للاختزال وكلما عجزوا عن تفسيرها، أخذوا يعشمون أنفسهم بأن العلم سيتوصل للتفسير المناسب فيما بعد، لقد جعلوا العلم أداة لسد الثغرات!

ويمضي الزمن، ويكتشف العلم يوماً بعد يوم حقائق كثيرة تزيد من حيرة العلماء، حتى قيل بحق “إن العلم يتضاعف بمتوالية حسابية بينما يتضاعف الجهل بمتوالية هندسية !!” . ولن يجد الماديون عاجلاً أو آجلاً مفراً من الإقرار بمفهوم التصميم الذكي ليفسر لهم الكثير مما أُغلق عليهم.

لذلك يخبرنا جيمس شابيرو (أستاذ البيولوجيا بجامعة شيكاغو) أن الدراونة لا يقدمون أي تفسير لنشأة الحياة على المستوى الخلوي أو البيوكيميائي، كل ما يقدمونه “تصورات مبتورة لا معنى لها” ويطرح شابيرو تحدياً كاسحاً فيتساءل: إذا  أردنا أن نوزع كلاً من “العلم” و “الجهل” على كلٍّ من الداروينية والتصميم الذكي، فكيف نوزعهما؟ مَن يستطيع أن يجيب عن التساؤلات حول:

–       مصدر المعلومات في الشفرة الوراثية (DNA)

–       مصدر “التعقيد المتفرد”

–       كيف يبرز “التعقيد غير القابل للاختزال” فجأة؟

–       من صاغ قوانين الطبيعة؟

هل تستطيع الداروينية الإجابة؟

لا شك أن مفهوم التصميم الذكي يستطيع.. فمن هو الجاهل؟

الداروينية – وليس التصميم الذكي–  تعيق العلم!

DNA

وجد العلماء أن الشفرة الوراثية للإنسان محمولة على 1.2% فقط من الدنا، فاعتبروا أن الباقي (98.8%) لا وظيفة له!

يردد الدراونة أن القول بالتصميم الذكي يعيق العلم، والحقيقة أن الداروينية هي التي تعيق العلم، ولنضرب على ذلك مثالاً:

انظر إلى اصطلاح ال (DNA) المُهمَل Junck DNA  الذي صكه البيولوجيون بعد أن وجدوا أن الشفرة الوراثية للإنسان محمولة على 1.2% فقط من الدنا، باعتبار أن الباقي (98.8%) لا وظيفة له! وأرجعوا وجود هذه الكميات الهائلة من ال (DNA) إلى الطفرات العشوائية، وانتهز الدراونة الفرصة، فقالوا إنه إذا كان وراء نشأة الخلية مصمم ذكي لَوَضع في النواة كميات الدنا المطلوبة فقط.

أما القائلون بالتصميم الذكي، فرأوا استحالة أن يكون المصمم الذكي قد قام بهذا العبث وسوء الاستخدام، ورفضوا القول بأنه وضع هذه الكميات الهائلة التي لا لزوم لها من المادة الحية في نواة الخلية. وهذا ما يثبت بالفعل، إذ تبين أن للدنا الذي سُمي مُهمَلاً أو سقطاً وظيفة حيوية لا تقوم حياة بدونها، إنه المسئول عن توجيه عمل جينات الكائن الحي، حتى لقد أصبح هذا الدور يمثل مجموعة من العلوم القائمة بذاتها، تُعرف باسم “علوم التحكم في الجينات Epigenetics”. هكذا أصبح إدراك مفهوم التصميم الذكي دافعاً (وليس معوقاً) للبحث عن التفسيرات العلمية الصحيحة لواحدة من أكبر المعضلات التي تواجه عقل الإنسان، وهي الحياة.

إن إحدى أكبر مشكلات الدراونة أنهم لم يدركوا ما في ظاهرة الحياة من تعقيد مبهر، فتمشت تصوراتهم البسيطة للحياة مع قولهم بعشوائية مصدرها. وإذا كان لدارون العذر في تبني هذا الموقف، فليس هناك عذرٌ للدراونة المعاصرين بعد كل ما تكشَّف من تعقيد في بنية ووظيفة المادة الحية والشفرة الوراثية.

القارئ الكريم

ثورة المعلومات

بعد أن كان علم البيولوجيا ينظر إلى الحياة باعتبارها ظاهرة كيميائية، صار ينظر إليها باعتبارها ظاهرة معلوماتية

 إذا كانت ملامح التصميم تتضح بجلاء فيما يبدعه الإنسان، فإنها تتضح أيضاً عند التأمل العميق في الطبيعة من حولنا وفي عالم الحياة داخلنا وخارجنا.

وبعد أن كان علم البيولوجيا ينظر إلى الحياة باعتبارها ظاهرة كيميائية، صار ينظر إليها باعتبارها ظاهرة معلوماتية، ومن ثَمَّ على الباحثين عن أصل الحياة أن يركزوا في بحثهم على مصدر المعلومات في الخلية الحية.

وقد أثبتت النظرية اللوغاريثمية للمعلومات استحالة أن تقدم الصدفة والعشوائية الكم الهائل من المعلومات المطلوبـة لنشأة واستمرار ظاهرة الحياة، وبذلك قدمت البرهان القاطع على وجود التصميم  والذكاء والقصد من خلال كشف ما يميز الحياة من “تعقيد متفرد” يستحيل أن يتشكل بالعشوائية.

كذلك طرحت البيولوجيا الحديثة مفهوم ” التعقيد غير القابل للاختزال”  الذي أثبت استحالة نشأة العديد من المنظومات الحياتية الدقيقة وكذلك أعضاء الكائنات الحية شديدة التعقيد بالأسلوب التدريجي المرحلي شديد البطء الذي تتطلبه الداروينية، مما لا يدع تفسيراً آخر لنشأتها إلا القول بأنها قد استحدثت في الكائنات الحية بشكل متكامل.

 ولا شك أن القول بوجود التصميم والذكاء في ظاهرة الحياة (وأيضاً الظواهر الكونية والطبيعية) لا يُخرج الطرح من دائرة العلم، فذلك ظاهر لكل ذي عينين، وعليه يركز القائلون بمفهوم “التصميم الذكي” دون أن يقحموا أنفسهم في الحديث عن” المصمم الذكي” حتى لا يوصف طرحهم بأنه طرح غيبي ديني.

من التصميم إلى المُصمِّم

الدين والعلم

لا شك أن الانتقال من المفاهيم العلمية إلى المفاهيم الدينية يمثل حرجاً شديداً في الغرب، بل في الحضارة المادية الحديثة بصفة عامة، إذ يعتبرون أن العلم الحديث لم يقف على قدميه إلا بعد أن تم فصله تماماً عن المفاهيم الدينية.

لكن، هل هناك حرج في أن ننتقل من القول بـ “التصميم الذكي” باعتباره مفهوماً علمياً إلى القول “بالمصمم الذكي” ؟ أليس من البديهي أن يحتاج التصميم إلى مُصمم؟

لا شك أن الانتقال من المفاهيم العلمية إلى المفاهيم الدينية يمثل حرجاً شديداً في الغرب، بل في الحضارة المادية الحديثة بصفة عامة، إذ يعتبرون أن العلم الحديث لم يقف على قدميه إلا بعد أن تم فصله تماماً عن المفاهيم الدينية.

أما في الشرق، فلا نجد (بصفة عامة) مثل هذا الحرج. بل إن معظم الشرقيين يتبنون مفهوم الخلق الخاص، الذي يعتبر الربط بين الدين والتصميم الذكي أمراً بديهياً، ويجعل الانتقال من مفهوم “التصميم” إلى البحث عن “المُصمم” أمراً لا غرابة فيه.

لا شك أن ما في الكون والحياة من تصميم (انتظام وانضباط وتعقيد) يقف وراءه سبب أول، ويتطلب ذلك أن يتسم هذا السبب بالذكاء والقدرة. وإذا كان المتدينون يؤمنون بحكمة الله وقدرته، فإن الملاحدة يؤمنون بقدرة الطبيعة! لقد أصبح كلُّ منهما يؤمن بقدرة خالقه، ولكلٍّ منهما دينه. وبدلاً من أن يشكر الإنسان الإله الخالق فإن الدارويني يشكر الطبيعة.

انظر إلى قول “ستيفن جولد” في تعليقه على انقراض الديناصورات: إن بنية الديناصورات (كزواحف ضخمة) لا تتناسب مع ظهور العقل المفكر، لذلك فنحن ندين بوجودنا ” كلية” لها.

 المُذِّنَّب الذي ارتطم بالأرض وتسبب في انقراض الديناصورات منذ 65 مليون سنة، مما سمح للثديات بالتطور والارتقاء، حتى نشأ الإنسان!!

 لذلك فنحن نرقى  (دون أن نفارق الموضوعية أو نعادي العلم) من القول بالتصميم الذكي إلى القول بالمصمم الذكي.

وينقسم القائلون بالتصميم الذكي إلى مجموعتين رئيسيتين، الأولى: هم القائلون بالخلق الإلهي الخاص، وتشمل الثانية: القائلين بالتطوير الإلهي، سواء ممن خلال التدخل الإلهي المباشر لإحداث الطفرات المطلوبة للتطور، أو من خلال استجابة الشفرات الوراثية للكائنات للتغيرات البيئية بناء على تناغم مسبق بينهما وضعه الإله الخالق. وإذا كان العلم الحديث قد قدم لنا الخطوط العريضة لآليات التطور الموجه، فما زال أمامه الكثير والكثير حتى يتوصل إلى بناء مقبول لهذه الآليات.

لعل من أحكم ما قيل لوصف التطوير الإلهي قول عاِلم البيولوجيا الجزيئية الكبير فرانسز كولنز “مَن الذي يحجر على الإله في أن يستخدم آلية التطور في الخلق”. فسواء خلق الله خلقاً خاصاً أو خلقاً تطورياً، فهو الخالق في الحالين.

________________________________

المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ خرافة الإلحاد، د. عمرو شريف، دار الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2014، ص244:239

[ica_orginalurl]

Similar Posts