القرآن الكريم

لم يسقط الرسول أو ينس أي آية من آيات القرآن

دأب أصحاب الباطل قديمًا وحديثًا على إثارة الشبهات حول الإسلام عمومًا، وحول القرآن على وجه الخصوص؛ لأنه الأصل الأول للتشريع، والمرتكز الأساس لدين الإسلام، وبالتالي فإن التشكيك فيه تشكيك في الشريعة، وهدم لأصل الملة.

ومن الشبه التي أثيرت حول القرآن، شبهة تقول: إن الرسول قد أسقط عمدًا، أو نسي آيات من القرآن؛ وبالتالي فإن القرآن الذي يتداوله المسلمون اليوم، ليس كل القرآن الذي أوحاه الله لرسوله عن طريق جبريل.

وقد اتكأ أصحاب هذه الشبهة، في تأييد شبهتم على آية من القرآن، وحديث من السنة؛ أما الآية فهي قوله تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا:

سنقرئك فلا تنسى* إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (الأعلى 6:87-7).

وأما الحديث فقول الرسول -وكان قد سمع قارئاً، يقرأ من الليل في المسجد):يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية، أسقطتها من سورة كذا وكذا(، متفق عليه.

وقد فهم أصحاب هذه الشبهة من الآية والحديث أن الرسول قد أسقط بعض الآيات من القرآن عمداً، أو على الأقل نسيها؛ الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن القرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم ناقص غير تام -وَفْق فهمهم-؛ بدليل الآية والحديث!!

ولا شك، أن القراءة المغرضة للنصوص، والفهم السقيم لها، هما اللذان دفعا للقول بهذه الشبهة؛ أما القراءة المنصفة للنصوص، والفهم الصحيح لها، فلهما شأن آخر؛ إذ غايتهما طلب الحقيقة، ووجهتهما الوقوف مع الحق حيثما كان. وعلى هذا الأساس نجري الحديث حول الآية والحديث، لنقف على صواب القول فيهما.

أما الآية الكريمة، فالحديث عنها يستدعي الحديث عن جانبين؛ الأول: يتعلق بقوله تعالى:

فلا تنسى

والجانب الثاني يتعلق بقوله تعالى:

إلا ما شاء الله

والحديث عن الجانب الأول من الآية، محصور في (لا)، الداخلة على فعل النسيان؛ فقد أراد أصحاب هذه الشبهة أن تكون (لا) هذه ناهية، وبالتالي يكون معنى الآية نهي للرسول أن ينسى شيئًا من القرآن، وما دامت الآية واردة في سياق النهي، فمدلول هذا النهي، أن النسيان أمر وارد على الرسول، وما دام الأمر كذلك، فليس من المستبعد، أن يكون الرسول قد نسي شيئًا من القرآن الموحى إليه، وبالتالي وجود نقص في القرآن!

والذي يردُّ هذا الفهم للآية أمران:

أولهما: أن الذي ذهب إليه جمهور أهل التفسير -وهم المرجع في هذا الشأن-، أن (لا) في الآية ليست هي (لا) الناهية، وإنما هي (لا) النافية، وشتان ما بينهما؛ فالأولى تفيد النهي، والثانية تفيد النفي؛ والآية على هذا، لا تنهى الرسول عن نسيان شيء من القرآن؛ وإنما على العكس من ذلك، تخبر وتعد الرسول، بأن الله سيقرئه قراءة لا ينساها أبداً.

ثانيًا: أن (لا) في الآية لو كانت ناهية، لكان الواجب والمتعين حينئذ حذف حرف العلة من آخر الفعل بعدها، ولكان المقتضى أن تكتب هكذا (فلا تنسَ)، لكنه في الرسم القرآني جاء حرف العلة مثبتًا، فكان في ذلك دلالة على أن (لا) في الآية ليست هي (لا) الناهية، وإنما هي (لا) النافية.

وإذا جارينا القول بأن (لا) في الآية هي (لا) الناهية، فإن معنى الآية يبقى مستقيماً، ولا يفهم من الآية، ما فهمه أصحاب هذه الشبهة؛ إذ يكون نهي الله لرسوله بعدم النسيان، إنما يراد منه المواظبة على الأسباب المانعة من النسيان، وهي الدراسة والقراءة.

أما الحديث عن الجانب الثاني من الآية، فمحصور في قوله تعالى:

إلا ما شاء الله

فالاستثناء في الآية استثناء صوري لا حقيقي، بمعنى أن الاستثناء في الآية لا يراد منه حقيقة الاستثناء، والذي هو استثناء شيء من شيء، وإنما هو استثناء من حيث الشكل، كقول الرجل لصاحبه: أنت شريكي فيما أملك، إلا ما شاء الله؛ فهو لا يقصد استثناء شيء؛ والذي يرشد إلى أن الاستثناء في الآية صوري لا حقيقي أمران:

أحدهما: ما جاء في سبب نزول الآية، وهو أن النبي كان يُتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن، حتى وقت نزول الوحي؛ مخافة أن ينساه ويفلت منه، فاقتضت رحمة الله برسوله أن يطمئنه من هذه الناحية، فنـزلت هذه الآية، كما نزلت آية:

لا تحرك به لسانك لتعجل به*إن علينا جمعه وقرآنه (القيامة 16:75-17).

ثانيهما: أن قوله تعالى:

إلا ما شاء الله

علق وقوع النسيان على مشيئة الله، وتلك المشيئة لم تقع، وبالتالي فإن النسيان لم يقع من الرسول؛ والدليل على أن المشيئة لم تقع، قوله تعالى:

إن علينا جمعه وقرآنه

فقد دلت هذه الآية على أن الله، تكفل بحفظ القرآن في الصدور، وجمعه في السطور، ومؤدى الآية وفحواها يتنافى مع وقوع النسيان من الرسول؛ فدل ذلك على أن مشيئة الله في أن ينسي النبي شيئًا من القرآن، لم تقع.

فإن قيل: إذا كان الاستثناء في الآية ليس على الحقيقة، فما معنى مجيئه إذن؟ فالجواب: أن الغاية من ورود الاستثناء في الآية على النحو المذكور، أن يعلم المخاطبون بالقرآن، أن عدم نسيان الرسول الذي وعد الله به نبيه، إنما هو محض فضل من الله وإحسان، ولو شاء سبحانه أن ينسيه شيئًا منه لأنساه؛ ومثل هذا الاستثناء، ما جاء في قوله تعالى في حق أهل الجنة:

وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (هود 108:11)،

فالاستثناء في هذه الآية أيضًا ليس على حقيقته، وإنما جيء به لبيان فضل الله على أهل الجنة، وأن دخولهم الجنة، إنما كان بفضل منه ورحمة، وأنه لو شاء سبحانه لما أدخلهم الجنة.

ثم على فرض القول: إن الاستثناء في الآية حقيقي -وهو مذهب بعض المفسرين، فإن الاستثناء ينبغي أن يفهم هنا على أحد أمرين؛ أحدهما: أن يُقصد منه نسخ تلاوة بعض الآيات، فإن نسخها يستدعي نسيانها؛ حيث إن بعض الآيات القرآنية قد نزلت على الرسول، وقرأها على الناس، ووعاها الصحابة، ثم نُسخت تلاوتها، وبالتالي فإن النسخ قد يستدعي النسيان لها، لعدم القراءة بها؛ ثانيهما: أن يقصد منه النسيان الطارئ والمؤقت بعد تبليغه للناس، ثم يقيض الله له من يذكره بها، كما جاء في الحديث موضع الشبهة.
أما استدلالهم بالحديث على إسقاط النبي شيئًا من القرآن، فمردود من ثلاثة أوجه:

أولها: أن قول الرسول في الحديث: (أسقطتهن)، ليس المراد منه الإسقاط المتعمد، كما فهم ذلك أصحاب هذه الشبهة، بل المراد منه النسيان؛ والذي يرشد إلى أن المراد منه ما ذكرنا، ما جاء في رواية ثانية للحديث، وهي قول الرسول: (أُنسيتها)، متفق عليه؛ فهذه الرواية توضح وتصرح أن المقصود من الإسقاط هو النسيان، وليس الإسقاط المتعمد.

ثانيها: أن نسيان الرسول الوارد في الحديث، ليس نسيان ضياع وفقدان، وليس كذلك إسقاطًا لشيء من القرآن؛ يرشد لهذا، أن ما نسيه الرسول من آيات قرآنية، كان قد حفظها، وبلغها لأصحابه، وبينها لهم، فحفظوها ووعوها وكتبوها وبلغوها؛ فعلى فرض نسيان الرسول لها، فإن في حفظ الصحابة لها، وتلقيهم إياها، وتدوينهم لها في مصاحفهم، ما يدل على أن القرآن بمجموعه قد حفظه الله، بما هيأه له من أسباب الحفظ.

ثالثها: أن النسيان الوارد في الحديث، ليس نسيانًا دائمًا لشيء يتعلق بأمور التبليغ، وما يتبع ذلك من أحكام وتكاليف شرعية، وإنما هو نسيان طارئ، كالذي يعرض لكل البشر، لكن سرعان ما يزول هذا النسيان الطارئ، ويعود الإنسان إلى تذكر ما كان قد غاب عن ذاكرته؛ فالحديث -برواياته المتعددة- لا يفيد أن الآيات التي قرأها الرجل أمام الرسول، كانت قد محيت من ذاكرة الرسول، ولم يعد يذكرها، ولم يبلغها للناس قبل ذلك؛ بل غاية ما يفيده الحديث، أن تلك الآيات كانت غائبة عن ذاكرته في ذلك الوقت، وأنه لم يكن يتذكرها في تلك اللحظة التي كان يقرأ فيها ذلك الرجل، لكن بعد أن قرأها تذكرها الرسول؛ ومن المعلوم لكل ذي عقل سليم، أن غيبة الشيء عن الذاكرة، والغفلة عنه، لا يعني محوه منها؛ والدليل على هذا واقع الناس؛ فإن الإنسان بطبعه قد يغيب عنه النص أحيانًا، إذا اشتغل الذهن بغيره، وهو يدرك -في الوقت نفسه- أن النص مخزون في ذاكرته، يستحضره إذا ما احتاج إليه، أو ذُكِّر به، وسوف يتذكره ويسترجعه للذاكرة عند الحاجة، فهذا أمر معروف من طبيعة البشر، ومعهود من كل إنسان، وما كان من نسيان الرسول فهو من هذا الباب. مع فارق مهم هنا، نبه عليه أهل العلم والتحقيق، وهو أن النسيان؛ إما أن يكون في الأمور التي تدخل في باب التبليغ والوحي، وإما أن يكون في الأمور التي لا تدخل في باب التبليغ والوحي؛ فأما نسيان ما هو من باب التبليغ والوحي، فلا يقع نسيانها من الرسول قبل تبليغها؛ لأن ذلك مما يتنافى مع مهمة البلاغ التي بُعث الرسول لأجلها، والتي أمره الله بها؛ وقد يقع منه النسيان بعد تبليغها، لكن لا يستمر منه ذلك النسيان، إذ سرعان ما يعود إلى ذاكرته، ما كان قد نسيه؛ وأما نسيان ما لا يدخل في باب التبليغ والوحي، فهذا الرسول والناس فيه سواء.

وبالإضافة لما تقدم من أدلة تفصيلية، تنقض ما تعلق به أصحاب الشبه بخصوص الآية والحديث، ويمكن نقض هذه الشبهة بدليلين إجماليين:

أحدهما: أنه لا يُعقل من الرسول -وهو المؤتمن على نقل رسالة الإسلام للعالمين- أن يبدل شيئًا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه، ولو فعل ذلك لكان خائنًا أعظم الخيانة؛ إذ لا يليق بمن تكون الخيانة وصفًا له، أن يكون رسولاً، يحمل رسالة سماوية للناس كافة.

ثانيهما: لو أن الرسول كان قد أسقط شيئًا من القرآن، لكان أولى ما يسقطه، الآيات التي تتعرض لشخصه، بما يشبه المؤاخذة والنقد؛ كقول الله:

وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه (الأحزاب 73:33)،

وقوله أيضًا:

عبس وتولى (عبس 1:80)،

وما تبع هذه الآية من آيات؛ فهذا وأمثاله كان أولى بالإسقاط والإغفال منه، لو كان الرسول يقوم بشيء مما ينسبه إليه المتقولون.

وخلاصة الرد على هذه الشبهة أن يقال: إن الآية الكريمة تنفي أن يحصل نسيان من الرسول؛ وهي وعد من الله أكيد، بأن الرسول يقرئه الله فلا ينسى، على وجه التأييد والتأبيد. وإن النسيان الوارد في الحديث لا يعني الإسقاط، كما لا يعني نسيان التبليغ، وإنما هو نسيان غفلة، وغيبة، وعدم تذكر من بعد حفظ، ومن بعد وعي، ومن بعد تبليغ. وهذه صفات بشرية، والرسول بشر، يقع منه النسيان، ويمكن أن يغفل عما حفظ من القرآن؛ لكن هذه الغفلة، وذلك النسيان لا يستمر منه، وإنما سرعان ما يعود ذلك لذاكرته؛ ولا يصح -بحال- أن يوصف النسيان الذي قد يكون من الرسول بأنه إسقاط، أو محو لما ثبت في القرآن، فإن هذا مما يأباه كل عقل سليم، يفقه حقيقة القرآن، ويعلم حقيقة مَن نزل عليه القرآن.

المصدر: .islamweb.net

[ica_orginalurl]

Similar Posts