صورة لرجل يكبر تكبيرة الإحرام في الصلاة.

كان النبي (صلى الله الله عليه وسلم) إذا فرغ من قراءة الفاتحة، قال‏:‏ ‏(‏آمين‏)‏، فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه‏.‏

وكانت قراءته مدًا، يقِف عند كل آية، ويمدُّ بها صوته‏.‏

فإذا فرغ من قراءة الفاتحة، قال‏:‏ ‏(‏آمين‏)‏، فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه‏.‏

وكان له سكتتانِ، سكتة بين التكبير والقراءة، وعنها سأله أبو هريرة، واختلف في الثانية، فروي أنها بعد الفاتحة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها بعد القراءة وقبل الركوع‏.‏ وقيل‏:‏ هي سكتتان غير الأولى، فتكون ثلاثاً، والظاهر إنما هي اثنتان فقط، وأمّا الثالثة، فلطيفة جداً لأجل ترادِّ النَّفَس، ولم يكن يَصِل القراءة بالركوع، بخلاف السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، والثانية قد قيل‏:‏ إنها لأجل قراءة المأموم، فعلى هذا‏:‏ ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة، وأمّا الثالثة، فللراحة والنفس فقط، وهي سكتة لطيفة، فمن لم يذكرها، فلقصرها، ومن اعتبرها، جَعَلها سكتةً ثالثة، فلا اختلاف بين الروايتين، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث، وقد صح حديث السكتتين، من رواية سمرة، وأبيّ بن كعب، وعمران بن حصين، ذكر ذلك أبو حاتم في ‏(‏صحيحه‏)‏ وسمرة هو ابن جندب، وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال‏:‏ “حفظتُ من رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) سكتتين‏:‏ سكتةً إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة‏:‏ ‏”‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}” ‏(‏الفاتحة‏/ الآية‏ 7‏)‏.

‏ وفي بعض طرق الحديث‏:‏ فإذا فرغ من القراءة، سكت وهذا كالمجمل، واللفظ الأول مفسِّر مبين، ولهذا قال أبو سَلمة بن عبد الرحمَن‏:‏ للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكِتاب إذا افتتح الصلاة، وإذا قال‏:‏ ‏”ولا الضالين‏.‏ ‏(‏الفاتحة‏/ الآية 7‏‏) على أن تعيين محل السكتتين، إنما هو من تفسير قتادة، فإنه روى الحديث عن الحسن، عن سمرة قال‏:‏ سكتتان حفظتهما عن رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) في، فأنكر ذلك عمران، فقال‏:‏ حفظناها سكتة، فكتبنا إلى أبيِّ بن كعب بالمدينة، فكتب أُبي أن قد حفظ سمرة، قال سعيد‏؟‏ فقلنا لقتادة‏:‏ ما هاتان السكتتان قال‏:‏ إذا دخل في الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك‏:‏ وإذا قال‏:‏ ولا الضالين قال‏:‏ وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادَّ إليه نَفَسُه ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا‏.‏

فإذا فرغ من الفاتحة، أخذ في سورة غيرِها، وَيُخَفِّفُهَا لعارض مِن سفر أو غيره، ويتوسط فيها غالباً‏.‏

قراءته (صلى الله عليه وسلم) في الصلاة:

وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية، وصلاها بسورة ‏(‏ق‏)‏، وصلاها بـ ‏(‏الروم‏)‏ وصلاها بـ ‏(‏إذَا الشَّمسُ كُوِّرَت‏)‏ وصلاها بـ ‏(‏إِذَا زُلْزِلَتْ‏)‏ في الركعتين كليهما، وصلاها بـ ‏(‏المعوِّذَتَيْنِ‏)‏ وكان في السفر وصلاها، فافتتح بـ ‏(‏سورة المؤْمِنِين‏)‏ حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى، أخذته سَعْلَةٌ فركع‏.‏

وكان يُصليها يومَ الجمعة بـ ‏(‏ألم تنزيل، السَّجدة‏)‏ وسورة ‏(‏هل أتى على الإِنسان ‏)‏ كاملتين، ولم يفعل ما يفعلُه كثيرٌ منِ النَّاس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين، وقراءة السجدة وحدَها في الركعتين، وهو خلاف السنة‏.‏ وأما ما يظنه كثيرٌ مِن الجهال أن صبحَ يوم الجمعة فُضِّلَ بسجدة، فجهل عظيم، ولهذا كره بعضُ الأئمة قراءةَ سورة السجدة لأجل هذا الظن، وإنما كان (صلى الله عليه وسلم) يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلقِ آدم، ودخولِ الجنَّة والنَّار، وذلك ممّا كان ويكونُ في يومِ الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان، ويكون في ذلك اليوم، تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة ‏(‏ق‏)‏ و ‏(‏واقتربت‏)‏ و ‏(‏سبِّح‏)‏ و ‏(‏الغاشية‏)‏‏.‏

فصل

وأما الظهر، فكان يُطيل قراءتَها أحياناً، حتى قال أبو سعيد‏:‏ ‏”‏كانت صلاةُ الظهر تُقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله، فيتوضأ، ويدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) في الركعة الأولى ممّا يطيلُها‏.”‏ (رواه مسلم‏),‏ وكان يقرأ فيها تارة بقدر ‏(‏ألم تنزيل‏)‏ وتارة بـ ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى‏)‏ و ‏(‏الليل إذا يغشى‏)‏ وتارة بـ ‏(‏السماء ذات البروج‏)‏ و ‏(‏السماء والطارق‏)‏‏.‏

وأما العصر، فعلى النصف مِن قراءة صلاة الظهر إذا طالت، وبقدرها إذا قصُرت‏.‏

وأما المغرب، فكان هديُه فيها خلافَ عمل الناس اليوم، فإنه صلاها مرة بـ‏(‏الأعراف‏)‏ فرَّقها في الركعتين، ومرة بـ ‏(‏الطور‏)‏ ومرة بـ ‏(‏المرسلات‏)‏‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ “روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قرأ في المغرب بـ ‏(‏المص‏)‏ وأنه قرأ فيها بـ ‏(‏الصافات‏)‏ وأنه قرأ فيها بـ ‏(‏حم الدخان‏)‏ وأنه قرأ فيها بـ ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى‏)‏ وأنه قرأ فيها بـ ‏(‏التين والزيتون‏)‏ وأنه قرأ فيها بـ ‏(‏المعوِّذتين‏)‏ وأنه قرأ فيها بـ ‏(‏المرسلات‏)‏ وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل قال‏:‏ وهي كلها آثار صحاح مشهورة”‏.‏ انتهى.

وأما المداومة فيها على قراءة قِصار المفصل دائماً، فهو فعلُ مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيدُ بن ثابت، وقال‏:‏ مَالَكَ تقرأ في المغرب بقصار المفصَّل‏؟‏‏!‏ وقد رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطُوليين‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ وما طُولى الطوليين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الأعراف‏)‏ وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن‏.‏

وذكر النَّسائي عن عائشة (رضي اللّه عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ في المغرب بسورة ‏(‏الأعراف‏)‏ فرقها في الركعتين‏.‏

فالمحافظة فيها على الآية القصيرة، والسورةِ من قِصار المفُصَّل خلافُ السنة، وهو فعل مروان بن الحكم‏.‏

وأما العشاء الآخرة، فقرأ فيها (صلى الله عليه وسلم) بـ ‏(‏التين والزيتون‏)‏ ووقَّت لمعاذ فيها بـ ‏(‏الشمس وضحاها‏)‏ و ‏(‏سبِّح اسم ربك الأعلى‏)‏ و ‏(‏الليل إذا يغشى‏)‏ ونحوها، وأنكر عليه قراءتَه فيها بـ ‏(‏البقرة‏)‏ بعدما صلَّى معه، ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف، فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء اللّه، وقرأ بهم بـ ‏(‏البقرة‏)‏ ولهذا قال له‏:‏ ‏(‏أفتان أنت يا معاذ‏)‏ فتعلق النَّقَّارون بهذه الكلمة، ولم يلتفِتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها‏.‏

وأما الجمعةُ، فكان يقرأ فيها بسورتي ‏(‏الجمعة‏)‏ و ‏(‏المنافقين ‏)‏ كَامِلَتَينِ و ‏(‏سورة سبِّح‏)‏ و ‏(‏الغاشية‏)‏‏.‏

وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من ‏(‏يا أيها الذين آمنوا‏)‏ إلى آخرها، فلم يفعله قطُّ، وهو مخالف لهديه الذي كان يُحافظ عليه‏.‏

وأما قراءته في الأعياد، فتارة كان يقرأ سورتي ‏(‏ق‏)‏ و ‏(‏اقتربت‏)‏ كاملتين، وتارة سورتي ‏(‏سبِّح‏)‏ و ‏(‏الغاشية‏)‏ وهذا هو الهدي الذي استمر (صلى الله عليه وسلم) إلى أن لقي اللَّهَ عز وجل، لم ينسخه شيء‏.‏

ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده، فقرأ أبو بكر (رضي الله عنه) في الفجر بسورة ‏(‏البقرة‏)‏ حتى سلَّم منها قريباً من طلوع الشمس، فقالوا‏:‏ يا خليفَة رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم)‏؟‏ كادت الشمسُ تطلعُ، فقال‏:‏ لو طلَعت لم تجدنا غافلين‏.‏

وكان عمر (رضي اللّه عنه) يقرأ فيها بـ ‏(‏يوسف‏)‏ و ‏(‏النحل‏)‏ و بـ ‏(‏هود‏)‏ و ‏(‏بني إسرائيل‏)‏ ونحوها من السور، ولو كان تطويلُه (صلى الله عليه وسلم) منسوخاً لم يخفَ على خلفائه الراشدين، وَيَطَّلعْ عليه النَّقَّارون‏.‏

وأما الحديث الذي رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن جابر بن سَمُرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ في الفجر ‏”‏ق والقرآنِ المجيد‏”.‏ ‏(‏ق‏/ الآية 1‏)‏ وكانت صلاته بعد تخفيفاً، فالمراد بقوله ‏(‏بعدُ‏)‏ أي‏:‏ بعد الفجر، أي‏:‏ إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها، وصلاته بعدها تخفيفاً‏.‏ ويدل على ذلك قولُ أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و ‏(‏المرسلات عرفاً‏)‏ فقالت‏:‏ يا بني لقد ذَكَّرْتَنِي بقراءة هذه السورة، إنها لآخِرُ ما سمعتُ من رسولِ اللّه (صلى الله عليه وسلم) يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر‏.‏

وأيضاً فإن قوله‏:‏ وكانت صلاته ‏(‏بعدُ‏)‏ غايةٌ قد حذف ما هي مضافة إليه، فلا يجوز إضمارُ ما لا يدل عليه السياقُ، وترك إضمار ما يقتضيه السياقُ، والسياقُ إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفاً، ولا يقتضي أن صلاتَه كلَّها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفاً، هذا ما لا يدل عليه اللفظ، ولو كان هو المرادَ، لم يخف على خلفائه الراشدين، فيتمسكون بالمنسوخ، ويدعون الناسخ‏.‏

وأمّا قولُه (صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏(‏أَيُّكُم أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ‏)‏ وقول أنس (رضي اللّه عنه)‏:‏ كان رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أخَفَّ النَّاسِ صَلاَةً في تَمامٍ فالتخفيف أمر نسبي يَرْجِحُ إلى ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم)، وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يأمرهم بأمر، ثم يُخالفه، وقد عَلمَ أن من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذَا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيفُ الذي أمرَ به، فإَنه كان يُمكن أن تكون صلاتُه أطولَ منِ ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفةٌ بالنسبة إلى أطول منها، وهديُه الذي كان واظب عليه هو الحاكمُ على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر (رضي اللّه عنهما) قال‏:‏ كان رسولُ اللّه يأمرنا بالتخفيف ويؤمُّنا بـ ‏(‏الصافات‏)‏ فالقراءة بـ ‏(‏الصافات‏)‏ من التخفيف الذي كان يأمر به، واللّه أعلم‏.‏

فصل

وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين، وأمّا في سائر الصلوات، فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنه قال‏:‏ مَا منَ المفصَّلِ سورةٌ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلا وقد سمِعتُ رسولَ اللّه (صلى الله عليه وسلم) يَؤمُّ الناسَ بها في اَلصَّلاةِ المَكْتُوبةِ‏.‏

وكان من هديه قراءةَ السورة كاملة، وربما قرأها في الركعتين، وربما قرأ أول السورة‏.‏ وأما قراءة أواخر السور وأوساطِها، فلم يُحفظ عنه‏.‏ وأما قراءةُ السورتين في ركعة، فكان يفعله في النافلة، وأما في الفرض، فلم يُحفظ عنه‏.‏ وأما حديثُ ابن مسعود (رضي اللّه عنه)‏:‏ إني لأعرف النظائِرَ التي كان رسولُ اللّه (صلى الله عليه وسلم) يقرُن بينهن السورتين في الركعة ‏(‏الرحمن‏)‏ و ‏(‏النجم‏)‏ في ركعة و ‏(‏اقتربت‏)‏ و ‏(‏الحاقة‏)‏ في ركعة و ‏(‏الطور‏)‏ و ‏(‏الذاريات‏)‏ في ركعة و ‏(‏إذا وقعت‏)‏ و ‏(‏ن‏)‏ في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يُعين محلَّه هل كان في الفرض أو في النفل‏؟‏ وهو محتمِل‏.‏ وأما قراءةُ سورة واحدة في ركعتين معاً، فقلما كان يفعله‏.‏ وقد ذكر أبو داود عن رجل من جُهينة أنه سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) يقرأ في الصبح ‏(‏إذا زلزلت‏)‏ في الركعتين كلتيهما، قال‏:‏ فلا أدري أنسيَ رسولُ اللّه (صلى الله عليه وسلم)، أم قرأ ذلك عمداً‏.

_______________________________

المصدر: كتاب زاد المعاد من هدي خير العباد للإمام ابن القيم.

[ica_orginalurl]

Similar Posts