حازم علي ماهر

الأديان والحضارات لخرى

معبد جميع الأديان بروسيا

في ظل هذه الهجمة الشرسة على المسلمين ووصمهم جميعًا –صراحة أو ضمنًا- بالإرهاب، ووضع حضارتهم في موضع الاتهام فيما يخص قضية التعامل مع الآخر –بصفة عامة- حتى انتشرت ظاهرة “الإسلاموفوبيا” أو الخوف من الإسلام، بل والعداء للإسلام، على مستوى جزء كبير من العالم، خاصة في الغرب، فإنه من المهم أن نلقي نظرة على حال التعايش الديني عند الأمم والحضارات غير المسلمة؛ حتى ندرك مكان الحضارة الإسلامية في الخريطة الحضارية الإنسانية، ومدى أحقية هؤلاء في الاستعلاء على حضارتنا الإسلامية ومعايرتها!

كما تسعى هذه النظرة على التجارب التي قدمتها الأمم والحضارات الإنسانية المختلفة إلى تجنب الوقوع في فخ “الدفاع” و”التبرير” الذي يكشف عن خلل منهجي ومعرفي تعاني منه كثير من الكتابات الفكرية الإسلامية التي تتعرض للمقارنة بين الإسلام وغيره من الديانات، أو بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات، والذي مرده غالبًا إلى الشعور بالنقص والدونية تجاه تلك الحضارات عكس ما يعتقد المبررون في أنفسهم أو يُعتقد فيهم.

وبالنظر المتأمل في تاريخ الأمم والحضارات غير الإسلامية نجد ما لا تخطئه عين فاحصة من سجلات بالغة القتامة في النظر إلى الآخر بصفة عامة، وإلى المخالف في الدين بصفة خاصة؛ فنجد أنه في معظم المدنيات القديمة، كان الاتصال مع المشرك (الآخر) يمكن أن يتم فقط في أوقات الحرب، بصفته الغازي أو المغزوّ، وفي كلتا الحالتين كان يعتبر عدوًا، وكان مصيره الموت أو الأسْر، أو الموت بعد الأسر([1])!

وفي قليل من الحال كان الاتصال مع الآخر يتم بمقتضى التجارة وحدها، مثلما كان يحدث في عهد إمبراطورية مصر (الأسرة الحاكمة 18)، ولكنه يعتبر كأنه شخص همجي: وغير بشري([2])!

وعند الهندوس يعتبر من لا ينتمي إلى أي ديانة هندوسية بمثابة (مليشا)، ويكون ذا مصير أسوأ من مصير “المنبوذ” – الذي يمثل أدنى طبقة- وكلاهما يعد شيئًا بغيضًا (مدنسًا) يلوث كل شيء يتصل به، غير أن (المليشا) ليس له مركز على الإطلاق ويجب طرده من المجتمع أو قتله([3]).

أما اليهودية فإنها -مثلها مثل المسيحية- تنظر إلى من على غير دينها باعتباره عدوًا لله، وتتماثل مع الهندوسية في اعتباره منبوذًا في المجتمع، وتعتبره “عدوًا للقوم المختارين من الله”؛ أي عدوًا يجب على المؤمنين مطاردته ومهاجمته، وإخضاعه أو تدميره حتى في وطنه[4]!

ونجد أرسطو يقول في كتابه (السياسة): “إن الفطرة أرادت أن يكون البرابرة عبيدًا لليونان، حيث مُنِح الأولون القوة الجسدية بينما زُوِّد اليونان بالعقل والإرادة”! بينما اعتبر الرومان مَنْ عداهم أشياءً لا أشخاصًا، وأطلقوا على الآخر وصف (هوستس) الذي هو العدو المبين[5]!

على حين أن الأوربيين قد امتلأ تاريخهم مع الآخَر بالدماء منذ لاحق الأرثوذوكس الملكانيين اليعاقبة من أقباط مصر والشرق بالقتل والتشريد في القرن السادس الميلادي، وحتى حملة إبادة مسلمي البوسنة في أواخر القرن العشرين، مرورًا بطرد المسلمين واليهود بقوة السلاح من الأندلس في القرن العاشر، وقبل ذلك، باستئصال غير المسيحيين من (الدانمارك) على عهد الملك (كنوت)، وفي جنوب (النرويج) إبان حكم الملك أولاف ترايجغسيون، الذي أمر بذبح كل من أبى اعتناق المسيحية، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم ونفيهم خارج حدود مملكته[6]!

ولا تسأل عن مأساة (الهنود الحمر) في الأمريكتين، والذين اعتبرهم (المكتشفون الأوربيون) أقرب إلى القردة منهم إلى البشر، ولا حصانة لهم، فقتلوا منهم الملايين[7]، وحين اعترفت بهم أوقفت ذلك على شروط، كقدرتهم على التحول إلى المسيحية، بل رأى (السادة المكتشفون) أن من واجبهم أن يفرضوا على الهنود التحول القسري إلى المسيحية، واعتبروا الاستعمار عملا أخلاقيًّا ما دام التبشير يحتاج إليه، وهم بذلك كانوا أحسن حالا من السود والمسلمين الذين اعتبروهم (حثالة الأمم)[8]!

وقد يدفع البعض بأن هذه التجارب تخص الماضي وحده بينما في الحاضر تفوقت الحضارات الأخرى على الحضارة الإسلامية فيما يتعلق بالتعايش الديني، وهو أمر صحيح جزئيًّا فيما يتعلق ببعض الجوانب في عالمنا المعاصر، وإنكاره فيه جحود وغفلة عن الواقع الذي يشعر فيه كثير من المسلمين المقيمين في خارج الدول الإسلامية بالأمن واحترام كرامتهم الإنسانية أكثر مما كانوا يشعرون به في أوطانهم، ولكن تعميمه فيه – كذلك- إنكار لحقائق وتجارب بارزة تثبت بجلاء أن التعامل مع المسلمين تحديدًا في ظل الحضارة الغربية بالذات لا يزال -كذلك- يعاني من أزمة كامنة يبدو أنها تراكمت عبر التاريخ، أبرزتها أحداث فظيعة أرَّقت الإنسانية ودخلت ضمن التاريخ الأسود لها، مثل حرب التطهير العرقي والمذابح التي تعرض لها المسلمون في دولة البوسنة والهرسك –وهي دولة أوروبية- في الفترة من (1992- 1995)، والتي بلغ فيها ضحايا المسلمين –بحسب تقديرات الأمم المتحدة- ما يقرب من مئتي ألف قتيل ومئتي ألف جريح ومعاق، لمجرد أنهم سعوا لإقامة دولة مستقلة لهم مثل نظرائهم من الصرب والكروات، وحدث ذلك تحت عين الأوربيين والعالم أجمع دون أن يحرك ساكنًا لمدة أربع سنوات، بل وتم حظر السلاح عن القاتل والمقتول على السواء، وكأن الضحايا المسلمين لا قيمة لهم ولا يستحقون النجدة والإغاثة إلا بعد أن يُذبح أكبر عدد ممكن منهم!

فضلا عن التضييق المتصاعد على الأقليات المسلمة في الغرب والذي برز في قضايا مثل: حظر حجاب المرأة المسلمة في بعض الأماكن بعدد من الدول الأوربية، والرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الدانمارك، والمبالغة والتعميم في وصم المسلمين ودينهم بالإرهاب والعنف وعدم القدرة على التعايش مع الآخر، ثم توجيه الاتهام إلى الإسلام بأنه هو مصدر الخطر على وجه الأرض الذي ينبغي الاحتشاد لمواجهته[9]!

ويبدو أن هذا التصعيد -فضلا عن دوافعه السياسية التي تتمثل في إيجاد عدو بديل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة[10]– فإنه يرجع إلى أن الرؤية الغربية الراهنة تستمد جذورها من (مبدأ المواطنة اليوناني) الذي عرف فكرة الأجنبي الذي يستحيل أن يصير مواطنًا لا هو ولا مَنْ يولد مِنْ صلبه، وعرفت فكرة (العبد والسيد)، كما أنها تستمد جذورها من (مبدأ السلام الروماني) الذي يستدعي فكرة (مركزية روما) وتبعية الشعوب الخاضعة لها، ويدشن بذور النظام القانوني القومي بفكرة (القانون الطبيعي) و(القانون المدني) و(قانون الشعوب) كجذور للداروينية والهيجلية والماركسية وغيرها من إفرازات تلك النظرية… فمفهوم (الأنا) الحديث هو الذي ولّد مفهوم (الآخر) الذي يستحيل دخوله في (الأنا)، فتمت تنشئته على مقولة: إن القوة تخلق الحق، وإن العلاقة بينه وبين كل ما في الوجود لا تحتمل إلا خيارًا من اثنين: إما خضوعه لهيمنة الآخر، أو إخضاعه الآخر لهيمنته، وأن رسالته في الحياة هي أن يبرهن على أنه الأصلح للبقاء في صراع أبدي لا موضع فيه للنظر إلى الكون على أنه كيان عضوي يلتزم الإنسان في مواجهته بأية ضوابط من غير صنع الإنسان. واعتبر (الأنا الحديث) علاقته مع (الآخر) كطبيعة علاقة غزو وقهر، واعتبر علاقته مع (الآخر الإنساني) لعبة صفرية لا موضع فيها للتلاقح الفكري الحر الذي يحقق التعارف والتحاور بين البشر[11].

وهناك تفسير آخر لهذا العداء ذهب إليه د. أحمد داود أوغلو، وهو أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي حظيت بمنزلة أرقى من الحضارة الغربية، وأن المجتمعات الإسلامية هي المجتمعات الوحيدة التي لم ترضخ للأطماع الاستعمارية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بالإضافة إلى سعي الجماهير المسلمة في الوقت الراهن من أجل صياغة ثوابتها الحضارية وثقافتها في عصر عولمة الثقافة واحتكارها، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يفسر لماذا يجري الحديث عن المسلمين بوصفهم عناصر غير منسجمة مع النظام العالمي[12].

وأيًّا كانت الدوافع وراء العداء المتصاعد ضد المسلمين والإسلام، فإنه يكشف بجلاء عن وجود أزمة حقيقية تعاني منها الحضارة الغربية في قبول المخالف في الدين (المسلم تحديدًا) إلا إذا تبنى أطروحاتها وتخلى عن ثوابته وخصوصياته الحضارية، وهو أمر بالتأكيد لا يؤدي إلى التعايش الديني المنشود[13].

وأخيرًا..

إن النظر إلى التجارب الإنسانية المختلفة في التعامل مع المخالفين في الدين، يبين كيف امتنع التعايش بالحسنى بين أبناء الأديان في ظلها، فامتلأ بالصراع والعصبية والعنصرية البغيضة.. الأمر الذي يجعلنا نتساءل متعجبين:

ما الذي يدفع هؤلاء إلى التعالي على الحضارة الإسلامية وأصولها المرجعية وسيرتها التاريخية؟!

ألا يجدر بهم بدلاً من ذلك أن يتواضعوا كثيرًا ويسعوا –بجد واجتهاد- إلى المشاركة في وضع ميثاق شرف عالمي، ومنهاجية واضحة تسعى إلى تمكين الإنسانية من التعايش السلمي المشترك وقبول المخالف، أم أن الاعتبارات السياسية عندهم ستظل هي الناصية الكاذبة الخاطئة؟!

——

* المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.

[1] حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية.. الأوجه الاجتماعية والثقافية، د. إسماعيل الفاروقي، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر (العدد 26 – إبريل 1981م)، وأعيد نشره ضمن كتاب: “الأقليات.. رؤى إسلامية، سلسلة “المسلم المعاصر” الكتاب رقم (3)، ص 45، نهضة مصر- القاهرة، الطبعة الأولى: يوليو 2008م.

[2] المرجع السابق: ص 45، 46.

[3] حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية: ص 48 – 49.

[4]– المرجع نفسه.

[5]– نقلاً عن: الآخر في الخبرة الإسلامية.. فكرة وممارسة، أ. فهمي هويدي: ص 1، ورقة مقدمة إلى الندوة الدولية: (تفعيل مقوّمات الهوية الثقافية الإسلامية في الفهم والتفاهم بين الشعوب والحضارات)، والتي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) في مقرها الدائم بالرباط (المملكة المغربية)، في الفترة من 8 – 10 صفر 1428هـ، الموافق 28 فبراير 2007م.

4- السابق نفسه.

5- ذكر أ. منير العكش أن عدد من قتلوا من الهنود الحمر بلغ 112 مليون إنسان! انظر كتابه: حق التضحية بالآخر.. أميركا والإبادات الجماعية: ص 11، دار ضياء الريس، بيروت، الطبعة الأولى 2002م.

1- الأنا والآخر من منظور قرآني، د. السيد عمر، الكتاب رقم 3 ضمن سلسلة “التأصيل النظري للدراسات الحضارية”، تحرير أ. د/ منى أبو الفضل، وأ.د/ نادية محمود مصطفى: ص 118- 119، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1429هـ= 2008م.

2- للتوسع في الاطلاع على حقيقة تصوير الإسلام كعدو يهدد الحضارات والأديان الأخرى، يمكنك مراجعة: التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة، جون ل. سبوزيتو، دار الشروق- القاهرة، الطبعة الثانية: 1422 هـ = 2002م.

[10] ذهب عالم الاجتماع الفرنسي (إي. مارين) إلى القول بأن البعض يسعى لحجب أزمة الغرب عن طريق التحريض ضد “صورة عدو تاريخي”، ويعلق د. أحمد داود أوغلو على ما قاله (إي. مارين) بأن “سيناريو العدو التاريخي قد يخفي صراعات وأزمات داخلية، كما أنه قد يساعد على خلق شعور بالوحدة والتآزر” (راجع: د. أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية: ص 176، تعريب وتحرير ومراجعة: د. إبراهيم البيومي غانم، مكتبة الشروق الدولية- القاهرة، الطبعة الأولى: 1427 هـ = 2006م).

[11] الأنا والآخر من منظور قرآني: ص 116 – 117، مرجع سابق.

[12]– العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، المرجع سابق، ص 179.

[13]– وصف د. طه عبدالرحمن الحضارة الغربية بأنها: “حضارة ناقصة عقلاً، وظالمة قولاً، ومتأزمة معرفة، ومتسلطة تقنية”.. راجع كتابه: (سؤال الأخلاق): ص 145، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء– المغرب، الطبعة الأولى سنة 2000م. بينما تساءل د. مراد هوفمان: “هل تعاني المجتمعات الغربية من مرض ما؟ أم يتهددها خطر السقوط الأخلاقي كما حدث للبولشفية من قبل؟”، وذلك بعد أن ذكر أن القرن العشرين كان أكثر القرون دموية في تاريخ البشرية، بكل ما شهده من حروب عالمية مدمرة وانتشار الأسلحة القادرة على إبادة الملايين من البشر، ومعسكرات الإبادة وعمليات التطهير العرقي وغيرها من مآسي البشرية، وأن كل هذا يشهده العالم بعد مرور 250 عامًا على بداية عصر التنوير ومشروع الحداثة! وأن هذه الوحشية المهينة للبشرية تتركز في أوروبا (المتحضرة) الشديدة الزهو والفخر بعقلانيتها وإنسانيتها. راجع كتابه: الإسلام والألفية الثالثة.. ديانة في صعود: ص 10، مكتبة الشروق الدولية- القاهرة، الطبعة الثالثة: 1432هـ = 2011م.

[ica_orginalurl]

Similar Posts