د. يوسف القرضاوي

رسم القرآن منهج الخطاب الديني أو الدعوة الدينية في آية كريمة من سوره المكية، حين قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).06_09_2011_1090393233_708105

فهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى خطابه من الأمة من بعده. إذ الدعوة إلى الله، أو إلى سبيل الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل أمته أيضا مطالبة بأن تقوم بدعوته معه وبعده.

وفي هذا يقول القرآن أيضا في مخاطبة الرسول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108).

فكل من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا: هو داع إلى الله، وداع على بصيرة، بنص القرآن {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.

وبهذا كانت الأمة مبعوثة إلى الأمم بما بُعث بها نبيها، فهي تحمل رسالته، وتحتضن دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم للأمة: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين” [رواه البخاري في كتاب الوضوء عن أبي هريرة].

وقال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد جيوش الفرس: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

من هنا نرى أن آية سورة النحل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ترسم معالم المنهج المنشود للدعوة أو الخطاب الديني السليم.

معالم المنهج المطلوب للدعوة للخطاب الديني

وضع القرآن الكريم لمنهج الدعوة إلى الله وإلى سبيله وسائل تعين الداعية المسلم على أداء مهمته وتبليغ رسالته. وقد أوجزها القرآن – بإعجازه البياني – في كلمات معدودة.

أولا- الدعوة واجب كل مسلم:

وأول هذه المعالم: العلم بأن هذه الدعوة فرض على كل مسلم. وهو مقتضى الأمر من الله بالدعوة، فكل مسلم مأمور بالدعوة إلى دينه بصورة ما، وبطريقة ما، كما قال تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.

   كل ما في الأمر أن صورة الدعوة تختلف من شخص لآخر، حسب الاستطاعة والإمكان.

   فهناك من يدعو إلى الله بتأليف كتاب أو كتب.

   وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء محاضرة في جامعة أو في مركز ثقافي.

   وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء خطبة جمعة في مسجد أو إلقاء درس ديني فيه.

   وهناك من يدعو بالكلمة الطيبة، والصحبة الجميلة، والأسوة الحسنة.

   وهناك من يدعو بالإنفاق على الدعاة، أو على نشر إنتاجهم، أو على تأسيس مركز للدعوة، على نحو ما قال عليه الصلاة والسلام: “من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا” [رواه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد]، ونحن نقيس عليه فنقول: من جهز داعيا إلى الله فقد دعا.

ثانيًا- دعوة ربانية إلى منهج الله:

وثاني هذه المعالم أن يوقن الداعية أنه يدعو إلى سبيل الله، أي طريق الله، أي منهج الله الذي رسمه لهداية الناس حتى يحسنوا العبادة لله وحده، ويحسنوا التعامل بعضهم مع بعض، وبذلك يسعدون في الدنيا ويفوزون بحسن المثوبة في الآخرة.

إن الداعية المسلم هنا لا يدعو الناس إلى نفسه أو إلى قومه، بل يدعوهم إلى ربه وحده {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 79) إنه لا يدعو إلى نظام بشري ولا إلى فلسفة أرضية، ولا إلى قانون وضعي وضع بأمر إمبراطور أو ملك أو رئيس أو أمير، بل يدعو إلى تحرير البشر من العبودية للبشر، فلم يعد – في نظر الإسلام – بشر يملك أن يشرع لبشر تشريعا مطلقا دائما، يحل له ما يشاء ويحرم عليه ما يشاء، كما حدث عند أهل الكتاب في فترة من فترات التاريخ، وهو ما أنكره القرآن بشدة حين قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31).

آن للبشر أن يتحرروا من عبودية بعضهم لبعض، وربوبية بعضهم لبعض، وأن يكونوا جميعا عبادا لله وحده الذي خلقهم وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.

ولهذا كانت رسائل محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملوك أهل الكتاب مختومة بهذا الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64).

ثالثا- دعوة المسلمين بأسلوبي الحكمة والموعظة الحسنة:

وثالث المعالم لهذا المنهج أنه يقوم على دعوة المسلمين إلى منهج الله بأسلوبين أولهما الحكمة، وثانيهما الموعظة الحسنة.

أسلوب الحكمة

والحكمة يراد بها مخاطبة العقول بالأدلة العلمية المقنعة، وبالبراهين العقلية الساطعة، التي ترد على الشبهات بالحجج والبينات، وترد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول.

كما أن من الحكمة مخاطبة الناس بما يفهمون، وما تسيغه عقولهم، لا بما يعجزون عن فهمه، وقد قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟

ومن الحكمة أن تكلم الناس بلسانهم، ليفهموا عنك، ويتجاوبوا معك، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وليس معنى الآية مجرد أن يكلم الصينيين باللغة الصينية، والروس باللغة الروسية فقط، بل معناه الأعمق أن يكلم الخواص بلسان الخواص، والعوام بلسان العوام، ويكلم الناس في الشرق بلسان أهل الشرق، وفي الغرب بلسان أهل الغرب، ويكلم الناس في القرن الحادي والعشرين بلسانهم لا بلسان قرون مضت.

ومن الحكمة أن نأخذ الناس بالرفق فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وأن نهيئ أنفسهم لتلقي الأمر والنهي قبل توجيهه إليهم، وأن نأخذ بالمنهج النبوي الذي أمر به الأمة في الدعوة والتعليم، حين قال: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا” [متفق عليه عن أنس. كما في اللؤلؤ والمرجان (1131)]، ولا تكلف الناس ما لا يطيقون حتى لا يردوا أمرك ويقولوا: سمعنا وعصينا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” [متفق عليه عن أبي هريرة. اللؤلؤ والمرجان (846)].

ومن الحكمة أن نحسن ترتيب ما نأمر به وما ننهى عنه، بحيث يأتي كل شيء في موضعه، وفي أوانه، وفي مرتبته.

وليس من الحكمة أن نكلم الناس في إحدى الفرعيات، وهم يخالفون في إثبات الأصول نفسها، كأن تدعوهم إلى صدقة التطوع، وقد منعوا ركن الزكاة، أو إلى صلاة الضحى، وقد ضيعوا صلاة الفريضة. أو تكلمهم في الأوامر والنواهي قبل أن تثبت العقيدة أولا.

روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: “إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله – وفي رواية شهادة أن لا إله إلا الله – فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلهم، فإذا فعلوا الصلاة فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم…” الحديث [البخاري مع الفتح الحديث (1458) طبعة السلفية. وقد رواه مسلم أيضا].. فلم يفرض عليهم فرض الصلاة إلا بعد أن يعرفوا الله.

وهذا من الحكمة: أن نثبت الأصول ثم ندعو إلى الفروع. وقديما قال أسلافنا: ما حرمنا الوصول إلا بتضييعنا الأصول.

ومن مجانبة الحكمة: التشديد في النوافل وقد أهمل الناس الفرائض. ومن قواعدنا العلمية الموروثة أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة. ومن حكم السلف: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.

ومن ذلك الاشتغال بالمختلف فيه، وقد ضيع الناس المتفق عليه، مثل الانشغال بتغطية وجه المرأة بالنقاب، وعدم الاكتفاء بالخمار (المعبر عنه في عصرنا بـ “الحجاب”) وتأثيم المسلمة المختمرة، في حين أن المعركة الآن لم تعد معركة كشف الوجوه، بل كشف الرؤوس والنحور والصدور والذراعين والساقين وما هو أكثر من ذلك. وشاع لبس ما يسمى (الميني جب) و(الميكروجب) ونحوهما. ورأينا الكاسيات العاريات المميلات المائلات.

وأذكر أني تكلمت في هذه القضية مع علامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فوافقني على الاكتفاء من المسلمة في عصرنا بالخمار، على أن تترك البلاد التي التزمت بالنقاب على التزامها.

ومن الحكمة المطلوبة أن نراعي ما سميته (فقه الأولويات) فنقدم في باب المأمورات العقائد على الأعمال، ونقدم الفرائض الركنية على ما سواها، ونقدم الواجبات على السنن، والسنن المؤكدة على المستحبات. ونقدم في المنهيات: محاربة الكفر على ما دونه، ونقدم محاربة الكبائر على صغائر المحرمات القطعية، ونقدم المحرمات على الشبهات وعلى المكروهات، ونقدم المتفق عليه على المختلف فيه.

ومن الحكمة المطلوبة: أن نأخذ الناس بالتدرج؛ فالتدرج سنة كونية كما أنه سنة شرعية. أما أنه سنة كونية فهذا ما نراه في خلق الإنسان، حيث بدأ نطفة فعلقة فمضغة فعظاما مكسوة لحما ثم أنشأه الله خلقا آخر، ثم يخرج إلى الدنيا وليدا فرضيعا ففطيما فصبيا فيافعا فشابا فكهلا، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14).

وهكذا نرى خلق النبات، حيث يبدأ النبات بذرة، فينتقل من طور إلى طور حتى يصبح شجرة مثمرة.

وهو سنة شرعية، فإن الله تبارك وتعالى أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرسي العقائد وأصول الأخلاق أولا، كما نرى ذلك واضحا في القرآن المكي، ثم بدأ بأخذه بالجانب العملي، متدرجا بهم شيئا فشيئا، بادئا بإقامة الصلوات التي فرضت قبل الهجرة، ثم بإيتاء الزكاة وصوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ثم بعد ذلك فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا.

وكذلك بدأ بتحريم بعض المحرمات التي تعتبر من الرذائل الإنسانية المتفق عليها، وأنها من أسباب الفساد والاضطراب في الحياة الإنسانية، مثل قتل النفس وفاحشة الزنى، وقتل الأولاد من إملاق واقع أو خشية إملاق متوقع، وأكل مال اليتيم، ونقض العهد، والمشي في الأرض مرحا، ونحو ذلك مما هو أقرب إلى الجانب الأخلاقي منه إلى الجانب التشريعي.

ولكني أرى بعض الإخوة الدعاة لا يراعون التدرج قط فيمن يدعونهم، فبعد أن سقطت الشيوعية، في عدد من الأقطار الإسلامية، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفا، وقد ظلت هذه البلاد – وأهلها مسلمون – نحو خمسين سنة، معزولين عن الإسلام علما وثقافة وسلوكا، فهم يجهلون (ألف باء) الإسلام، فكانوا في حاجة إلى أن نأخذهم بالمنهج التدرجي الحكيم، فنبدأ بما اتفق عليه المسلمون لا بما اختلفوا فيه، من العقائد والأحكام.

ولكن بعض الإخوة – أصلحهم الله – لم يراعوا ذلك، فبدءوا بشن حملة على عقائد الأشاعرة والماتريدية الذين يدين بمذهبهم جمهور المسلمين في المشارق والمغارب، وتقوم المدارس والجامعات الدينية في أنحاء العالم الإسلامي على تدريسه.

هذا مع أن معركتنا اليوم ليست مع من يؤمن بالله وبلقائه وحسابه، ولكنه يؤول (يد الله) بأنها القدرة أو يؤول (وسع كرسيه السماوات والأرض) بأنه كناية عن سعة ملكه، وعظمة سلطانه.

إن معركتنا الحقيقية هي مع الملاحدة الذين يجحدون وجود الله بالكلية، ويقولون: لا إله والحياة مادة، ولا يكتفون بذلك بل يحاربون من يقول ربي الله.

ثم بدأ هؤلاء الإخوة الدعاة الطيبون يطالبون الرجال بإطلاق اللحى وتقصير الثياب، والنساء بلبس النقاب، بل بعضهم حمل معه عدة آلاف من (النُّقُب) ليلبسها النساء اللائي بينهن وبين الخمار مراحل ومراحل.

ثم إذا كنا في قلب ديار الإسلام والعرب، مبتلين بحليقي اللحى، فهل نبدأ بدعوة هؤلاء المسلمين الأوربيين الذين عاشوا نصف قرن تحت وطأة الشيوعية بما عجزنا عن مقاومته في قلب بلادنا العربية والإسلامية؟

وهل إطلاق اللحية من أركان الإسلام أو من فرائضه حتى نبدأ بها، ونعطيها هذه الأهمية في الدين؟

كما نرى هؤلاء الدعاة الطيبين يبدءون بحملة على التصوف كله، واتهامه بأنه دخيل على الإسلام، لا يفرقون – في ذلك – بين سني ومبتدع، بين مستقيم ومنحرف.

هذا مع أن الأمة عامة وهذه الشعوب خاصة في حاجة إلى تربية ربانية تخرجها من جحيم المادية المعاصرة التي شغلت الناس بالدنيا عن الآخرة، وبالخلق عن الخالق، وبالمادة عن الروح.. تربية إيمانية أخلاقية هي جوهر التصوف الصحيح الذي عبر عنه بعضهم بكلمة موجزة بأنه الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخَلْق. وبعبارة أخرى: التقوى مع الله، والإحسان مع الناس. إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128).

ومن الحكمة التي يجب أن يتحلى بها الدعاة في دعوتهم: الرفق بالمدعوين والتلطف والرحمة بهم والإشفاق عليهم. كما وصف الله رسوله بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وهذا هو رسول الله المؤيد بوحيه، ولكن البشر لا يطيقون الفظّ الغليظ ولو كان هو الرسول الأمين.

أسلوب الموعظة الحسنة

وإذا كانت الدعوة بالحكمة تخاطب العقول فتقنعها، فإن الدعوة بالموعظة الحسنة تخاطب القلوب والعواطف فتثيرها وتحركها. والإنسان ليس عقلا مجردا، إنه عقل وقلب معا، إنه عقل يدرك ويفكر، وقلب يحس ويشعر، وعلينا أن نخاطب الجانبين فيه معا: الجانب الذي يعي ويدرك ويحصل المعرفة، والجانب الذي ينفعل ويريد، ويحب ويكره، ويرغب ويرهب.

ولم يصف القرآن الحكمة بشيء لأن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ولكنه وصف الموعظة المطلوبة بالحسنة {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. فليس المطلوب أي موعظة ولكن الموعظة الحسنة الجميلة الجيدة.

فقد يكون حسنها في اختيار موضوعها المناسب للمخاطب.

وقد يكون حسنها في اختيار أسلوبها المؤثر فيه.

وقد يكون حسنها أنها جاءت في أوانها، وفي مكانها.

وقد يكون حسنها أنها لمست وترا حساسا من المخاطبين، فأثرت فيهم.

وقد يكون حسنها أنها قدرت ضعف الإنسان، فلم تؤنبه حين يسقط، ولم تجرحه حين يعثر ويخطئ، فكل بني آدم خطاء.

وقد يكون حسنها أنها اتخذت المنهج الوسط في الترغيب والترهيب، أو الترجية والتخويف، فلم تخوف الناس حتى ييأسوا من روح الله، فإنه {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 87) ولم تبالغ في الرجاء، حتى يأمن الناس من مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

ليس من الموعظة الحسنة تهييج العامة وإثارة مشاعرهم، وإلهاب عواطفهم في قضايا جزئية، قد يستفيد منها بعض الناس، ولكنها تضر الأمة في مجموعها ضررا بالغا.

وليس من الموعظة الحسنة اتخاذ الأدعية الاستفزازية في صلوات الجمع وفي قنوت النوازل وغيرها. فبعض الوعاظ والخطباء يدعون الله تعالى: أن يهلك اليهود والنصارى جميعا، وأن ييتم أطفالهم، ويرمل نساءهم، ويجعلهم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين.

ومن المعلوم أن في كثير من بلاد المسلمين توجد أقليات من النصارى – وربما من اليهود – وهم مواطنون يشاركون المسلمين في المواطنة، وليس من اللائق أن ندعو بدعوة تشمل هؤلاء بالهلاك والدمار؛ إنما اللائق والمناسب أن ندعو على اليهود الغاصبين المعتدين، وأن ندعو على الصليبيين الحاقدين الظالمين، لا على كل اليهود والنصارى.

على أني لم أجد في أدعية القرآن ولا في أدعية الرسول ولا في أدعية الصحابة مثل هذه الدعوات المثيرة: يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، وأمثالها. بل أدعية القرآن مثل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 250). {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

ومن أدعية الرسول: “اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم” [رواه البخاري (2933) ومسلم (1742) عن عبد الله بن أبي أوفى]. “اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم”. [رواه أبو داود (1537) عن أبي موسى الأشعري].

وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55). أي لا يحب الذين يعتدون ويتجاوزون في دعائهم.

حوار المخالفين بالتي هي أحسن

ومن معالم المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة إلى الله: الجدال بالتي هي أحسن.

ومن الملاحظ على التعبير القرآني المعجز في الآية أنه اكتفى في الموعظة بأن تكون (حسنة)، ولكنه لم يكتف في الجدال إلا أن يكون بالتي هي (أحسن)؛ لأن الموعظة تكون مع الموافقين، أما الجدال فيكون مع المخالفين، لهذا وجب أن يكون بالتي هي أحسن، على معنى أنه لو كانت هناك للجدال والحوار طريقتان: طريقة حسنة وجيدة، وطريقة أحسن منها وأجود، كان المسلم الداعية مأمورًا أن يحاور مخالفيه بالطريقة التي هي أحسن وأجود.

ومن ذلك أن يختار أرق العبارات وأخف الأساليب في جداله مع المخالفين، حتى يؤنسهم ويقربهم منه، ولا يوغر صدورهم أو يثير عصبيتهم. وقد ضرب لنا القرآن أمثلة رائعة وبارزة في هذا المجال في حسن مجادلة المخالفين.

ومن ذلك قوله تعالى في جدال المشركين: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24).

ففي هذا الأسلوب الرقيق الرفيق من إرخاء العنان، وتسكين الخصم وإرضاء غروره.. ما يهيئ نفسه للاقتناع أو الاقتراب منه إلى حد كبير. فهو يقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ولم يقل لهم: أنتم في ضلال مبين. ثم قال: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وكان مقتضى المقابلة أن يقول: {ولا نسأل عما تجرمون} ولكن لم يشأ أن يجيبهم بنسبة الإجرام إليهم، إيناسا وتقريبا وتأليفا لقلوبهم.

ومن الجدال بالتي هي أحسن: التركيز على الجوامع المشتركة بين المتحاورين، لا على نقاط الاختلاف والتمايز بينهما، فإن وجود أرض مشتركة بين الطرفين يساعد على جدية الحوار وجدواه، وإمكان الانتفاع به فيما هو متفق عليه بين الأطراف المتجادلة.

وهذا ما يشير إليه القرآن في الجدال مع أهل الكتاب، حيث يقول تعالى :{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) فهو هنا يركز على العقائد التي تقرب المسلمين منهم، وهي أن المسلمين يؤمنون بكل ما أنزل الله من كتاب، كما يؤمنون بكل من بعث الله من رسول، وكذلك يؤمن الجميع بإله واحد. ومن هذه النقطة ينطلق اللقاء لمواجهة الملاحدة والجاحدين الذين لا يؤمنون إلا بالمادة وحدها ولا يعتقدون أن للكون إلها ولا أن في الإنسان روحا ولا أن وراء الدنيا آخرة.

ومن الجدال بالتي هي أحسن ما ذكره صاحب (الظلال) رحمه الله، وهو أن يكون حوارا رقيقا رفيقا بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة ويشعر المجادل أن ذاته مصونة وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!

ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعاته يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله [انظر: في ظلال القرآن ص 2202. طبعة دار الشروق].

هذا هو الخطاب الديني الذي كنا ندعو إليه بالأمس. بل تبنينا الدعوة إليه منذ عشرات السنين، وهو الذي ندعو إليه اليوم المسلمين وغير المسلمين، وهو الذي سندعو إليه غدا وبعد غد؛ لأنه الخطاب الذي تعلمناه من الإسلام نفسه، من هُدى الله في كتابه، ومن هَدْي رسوله في سنته.

هو الخطاب الذي دعونا إليه قبل عصر العولمة، وسندعو إليه بعد عصر العولمة.

“غير المسلمين” بدل “الكفار”

ومن الجدال بالتي هي أحسن، المطالب به المسلمون، وخصوصا في عصر العولمة: ألا نخاطب المخالفين لنا باسم الكفار، وإن كنا نعتقد كفرهم. ولاسيما مخالفونا من أهل الكتاب.

وذلك لأمرين:

أولهما: إن كلمة (كفار) لها عدة معان، بعضها غير مراد لنا يقينا، من هذه المعاني: الجحود بالله تعالى وبرسله وبالدار الآخرة، كما هو شأن الماديين الذين لا يؤمنون بأي شيء وراء الحس، فلا يؤمنون بإله ولا بنبوة ولا بآخرة.

ونحن إذا تحدثنا عن أهل الكتاب لا نريد وصفهم بالكفر بهذا المعنى، إنما نقصد أنهم كفار برسالة محمد وبدينه. وهذا حق، كما أنهم يعتقدون أننا كفار بدينهم الذي هم عليه الآن وهذا حق أيضا.

والثاني: أن القرآن علمنا ألا نخاطب الناس – وإن كانوا كفارًا – باسم الكفر؛ فخطاب الناس – غير المؤمنين – في القرآن، إما أن يكون بهذا النداء (يا أيها الناس) أو (يا بني آدم) أو (يا عبادي) أو (يا أهل الكتاب).

ولم يجئ في القرآن خطاب بعنوان الكفر إلا في آيتين: إحداهما خطاب لهم يوم القيامة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم: 7).

والأخرى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 1-6). فكان هذا خطابا للمشركين الوثنيين الذين كانوا يساومون الرسول الكريم على أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، فأرادت قطع هذه المحاولات بأسلوب صارم، وبخطاب حاسم، لا يبقي مجالا لهذه المماحكات، فأمر الرسول أن يخاطبهم بهذه الصورة القوية، بما فيها من تكرار وتوكيد، ومع هذا ختمت السورة بهذه الآية التي تفتح بابا للسماحة مع الآخر، حين قالت: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

ولهذا آثرت من قديم أن أعبر عن مخالفينا من أهل الأديان الأخرى بعبارة (غير المسلمين). وأصدرت من قديم كتابي “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي”. وقد طبع مرات ومرات، وترجم إلى عدة لغات.

“مواطنون” بدل “أهل الذمة”

وهناك كلمات لم تعد مقبولة لدى إخواننا من الأقليات غير المسلمة مثل الأقباط في مصر، وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية الأخرى، وهي مصطلح “أهل الذمة” مع أن مدلول هذا المصطلح مدلول إيجابي؛ لأنه يعني أن لهم ذمة الله ورسوله وجماعة المسلمين. وهذا مدلول له وقعه وتأثيره في نفس المسلم، فإنه لا يقبل أن تُخفَر ذمة الله ورسوله بحال، ومن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

ولكن إذا كان مواطنونا من غير المسلمين يتأذون من هذا الاصطلاح، فلا أجد مانعا من استخدام كلمة (المواطنة) و(المواطن) فإن الفقهاء متفقون على أن أهل الذمة من أهل دار الإسلام، فهم من أهل الدار، وإن لم يكونوا من أهل الملة. و(أهل الدار) تعني بالتعبير العصري: مواطنين.

وحذف هذه الكلمة لا يتعارض مع شيء من أحكام شريعتنا، أو مقررات ديننا.

ولنا أسوة في ذلك من عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا أن نستن بسنتهم، وأن نعض عليها بالنواجذ، ولاسيما سنة الشيخين أبي بكر وعمر.

أسوتنا ما صنعه الفاروق عمر -ووافقه الصحابة رضي الله عنهم- مع عرب بني تغلب، وكانوا نصارى منذ عهد الجاهلية. وقد طلبوا إلى عمر أن يأخذ ما يأخذه منهم باسم الزكاة أو الصدقة، ولو كان مضاعفا، ولا يأخذه باسم الجزية، وقالوا: إننا قوم عرب، ونأنف من كلمة جزية.

تردد عمر في أول الأمر أن يجيبهم إلى طلبهم، ثم نصحه بعض مشيريه أن يستجيب لهم، قائلا: إنهم قوم لهم بأس وقوة، ونخشى أن يلحقوا بالروم، ففكر عمر في الأمر، ورأى أن ينفذ لهم ما أرادوا، وقال: سموها ما شئتم، وقال لمن حوله: هؤلاء القوم حمقى، رضوا المعنى وأبوا الاسم!

وكان هذا من الفاروق تقريرا لقاعدة مهمة هي أن العبرة ليست للأسماء والعناوين، ولكن العبرة للمسميات والمضامين.

هذا مع أن كلمة (جزية) ذكرت في القرآن، ولكن المقصود هو معناها لا لفظها. ومعناها: أن يدفعوا ضريبة يعلنون بها إذعانهم لسلطان الدولة المسلمة وقبولهم جريان أحكام الإسلام – غير الدينية – عليهم.

التعبير بالأخوة عن العلاقات الإنسانية

ومن التعبيرات المطلوبة في عصر العولمة: التعبير بالأخوة عن العلاقة بين البشر كافة، والمراد بها (الأخوة الإنسانية) العامة، على اعتبار أن البشرية كلها أسرة واحدة، تشترك في العبودية لله، والبنوة لآدم، وهذا ما قرره حديث نبوي شريف خاطب به رسول الإسلام الجموع الحاشدة في حجة الوداع، فكان مما قاله في هذا المقام: “أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى”.

وهذا الحديث يؤكد قول الله تعالى في مطلع سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1). وما أجدر كلمة (الأرحام) في هذه الآية: أن تشمل -فيما تشمل- الأرحام الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض. وفي ذلك يقول شاعر مسلم:

إذا كان أصلي من تراب فكلها *** بلادي، وكل العالمين أقاربي!

وفي حديث رواه أحمد وأبو داود عن زيد ابن أرقم مرفوعا: “اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة”.

وأولى من ذلك التعبير عن العلاقة بين المسلمين ومواطنيهم من غير المسلمين بـ (الأخوة).

والمراد بها: الأخوة الوطنية أو القومية. فليست (الأخوة الدينية) هي الأخوة الوحيدة التي تصل بين البشر. إنها لا شك أعمق ألوان الأخوة وأوثقها رباطا.

ولكن لا نزاع أن هناك أنواعا أخرى من الأخوة، مثل الأخوة بين أبناء القبيلة الواحدة وإن اتسعت، أو أبناء الشعب الواحد وإن تكاثر وانتشر، وبين أبناء الجنس الواحد أو القوم الواحد.

ودليلنا على ذلك: ما جاء في القرآن الكريم من حديث القرآن عن الأنبياء وصلتهم بأقوامهم المكذبين لهم، واعتبار القرآن كل نبي من هؤلاء (أخا) لقومه، وإن عصوه وكذبوه وكفروا برسالته.

اقرأ معي قول الله تعالى في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. )إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 106-107).

فانظر كيف أثبت أخوة نوح لهم، مع أنهم كذبوه، لأنهم قومه، وهو منهم، فهي أخوة قومية لا شك فيها.

ومثل ذلك قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء: 123-124).

وقوله سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء: 141-142).

وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء: 160-161).

ولم تخالف سورة الشعراء هذا التعبير إلا في الحديث عن شعيب، فقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء: 176-177).

فلماذا غاير القرآن الأسلوب هنا، وقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ}، ولم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب؟

السر في ذلك أن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة، بل كان غريبا عنهم، وإنما كان من مدين، ولهذا قال في سورة الأعراف، وفي سورة هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبا} فدلتنا هذه الآية بوضوح أن من الأخوة ما يبنى على غير الدين، وإنما يبنى على اعتبارات أخرى، ومنها: الاعتبار القومي أو الوطني.

ومثل هذه التعبيرات تقرب الآخرين منا، وتزيل الفجوة بيننا وبينهم، وهذا ما يبطل كيد الأعداء المتربصين بنا، والذين يريدون أن يشعلوا فتيل الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، ليصطادوا في الماء العكر، ويتخذوا من ذلك ذريعة للتدخل في شؤوننا، والتسلط علينا، والتحكم في رقابنا، وأولى بنا أن نرد كيدهم في نحورهم بمثل هذه المواقف التي تجعل قوى الأمة كلها جبهة متراصة في مواجهة مكرهم وعدوانهم.

الجائز وغير الجائز في تطوير الخطاب

أما إذا كان عصر العولمة يريد منا خطابا دينيا جديدا، نحرف فيه الإسلام عن حقيقته أو نحرف الكلم عن مواضعه، بحيث نقدم لهم إسلاما على هواهم: إسلاما (مستأنسا) إسلاما كسير الجناح منزوع السلاح لا حول له ولا قوة، يؤمر فيطيع ويقاد فينقاد، ويطلب من العلماء والدعاة والكتاب أن يقدموه عقيدة بلا شريعة وعبادة بلا معاملة وسلاما بلا جهاد وزواجا بلا طلاق وحقا بلا قوة ومصحفا بلا سيف ودعوة بلا دولة، فهذا إسلام لا نعرفه ولا يعرفنا.

وليس هو إسلام السنة والقرآن ولا إسلام رسول الله والصحابة ومن تبعهم بإحسان من خير القرون.

إن كان المراد بتغيير الخطاب الديني: تقديم الإسلام على أنه مجرد علاقة بين العبد وربه، وليس منهج حياة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وأنه يتبنى شعار: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فهذا إسلام مزيف على المسلمين، ليس إسلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا إسلام القرآن ولا إسلام المسلمين، الذي يرفض تقسيم الحياة والإنسان بين الله وقيصر، ويقول: قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162).

إن كان المراد بتغيير الخطاب الديني: حذف الآيات التي تتحدث عن اليهود وغدراتهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وانضمامهم إلى الوثنيين في حربه، أو -على الأقل- غض الطرف عنها وتجميدها، فلا تتلى في إذاعة ولا تلفاز ولا يتحدث عنها المتحدثون في خطب ولا دروس ولا محاضرات، فهذا مرفوض من أمة الإسلام، فكتاب ربهم يجب أن يظل متلوا مذكورا معلّما موجها فهو النور المبين والصراط المستقيم، من علم علمه سبق ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.

إن كان المراد من تغيير الخطاب الديني لدى المسلمين: حذف ركنية الزكاة من العبادات وحذف تحريم الربا من المعاملات وحذف الحدود من التشريع الجنائي وحذف الجهاد من العلاقات الدولية وحذف الغزوات من السيرة النبوية وحذف خالد بن الوليد وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز وعمر المختار وعز الدين القسام من تاريخ المسلمين، فلا ثُم لا.

إن كان المراد بتغيير الخطاب الديني: إهالة التراب على شعر أبي تمام في فتح عمورية، أو شعر أبي الطيب في انتصارات سيف الدولة على الروم، فلا ثم لا.

المصدر: موقع الدكتور القرضاوي.

[ica_orginalurl]

Similar Posts