د. فهد بن سعد الماجد

الإصلاح

الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشيء صالحا وجعل الفاسد صالحا

قد يكون أكثر شيء يواجه الفكر الإنساني إشكالاً هو تحرير المفاهيم وضبطها في أُطُرٍ واضحة، والمسائل حينئذ لا تبقى إشكالاً مفاهيماً وحسب، بل لها ذيولها ومن ثم سوابغها في الأعمال الإنسانية كافة.

وتكمن صعوبة تحرير المفهوم في أن العقل قد يخدع عن المفهوم إما باجتزائه أو تسطيحه، أو حتى تبديله، فيظن أنه قد تمكن من المفهوم، وهو قد خدع عنه، وهذه نقطة هي أقرب إلى المباحث الفلسفية، وإن كانت ضرورية عند بدايات البحث والتنظير في كل قضايا الفكر وكذلك مسائل العلوم.

لكننا في هذا المقال لن نتعرض للتفصيل في قضية المفهوم، إذ قد يبعدنا عما نحن بصدده، وإنما نُعنى الآن بما يناظر الجزء الأول من الموضوع وهو الإصلاح “الذي نطرحه مثالاً لموضوعات كثيرة من المهم جداً أن نحدِّد مفاهيمها ومن ثم مضامينها”.

ومن المفترض ألا نناقش أي قضية، وما يبنى عليها من نتائج، ما لم يحرر مفهومها الذي هو مرتكز للنقاش والحوار، فإن من دخل مدخل صدق خرج مخرج صدق، والإنسان كما يكذب في الأخبار يكذب في المفاهيم على حد عبارة أطلقها الأديب البارع الرافعي.

وحتى يتضح المقصود بتحرير المفاهيم، وأهمية ذلك أثراً وخطراً، فلا بد أن ينسق ما نقصده بالتحرير مع قضية المقال “الإصلاح”.

لقد نشأت إشكالات كبرى علمية وأخرى عملية، في ميدان الفكر وفي أرض الواقع، بسبب إهمال تحرير مفهوم الإصلاح ليس في عصرنا الحاضر وحسب، بل منذ أن وجد الإنسان ووجد معه الإصلاح، وليس هذا خاصاً بالأمة الإسلامية، فمفردة الإصلاح متقررة في كل لغات العالم وثقافات الشعوب.

وقد لا ينتبه البعض إلى أن القرآن الكريم عُني بالإصلاح قضية من خلال مفهومه وآلاته، أو مسائله ووسائله، ويكفي لإيضاح هذه الحقيقة أن نعرف أن مدار رسالات الرسل التي قرَّرها القرآن وجلاّها وأوضحها كلها تدور على الإصلاح، والتي قال عنها خطيب الأنبياء شعيب عليه الصلاة والسلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ} (هود: 88).

وحتى يتبين مقدار عناية القرآن الكريم بالإصلاح، فإن من المناسب أن نعرض لبعض آي القرآن الكريم التي قالت عن الإصلاح وقالت فيه لنستوضح أيضاً المنهج الإسلامي أو الشرعي تجاه هذه القضية المهمة التي هي قضية مفاهيمية قبل أن تكون قضية إجرائية، ومن المهم ضبط المفهوم قبل العمل على الإجراء.

فالنص الأول يقول الله تعالى فيه: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (الأعراف: 56).

وهذا النص الكريم جاء في الآية رقم (56) من سورة الأعراف وهو خطاب لنا وجاء كذلك في الآية رقم (85) من نفس السورة وهو خطاب لقوم شعيب، وهذا يؤكد ما قلناه قبل أن رسالات الرسل تدور على أمر الإصلاح هذا.

ونستطيع أن نقول: إن هذا النص الكريم يكفي لشرح مفهوم الإصلاح في الإسلام إذا أعطي هذا النص حقه من الشرح والتفسير.

وبإيجاز نوضح بعض ذلك بنقاط محددة:

  • يُضمّ إلى هذه الآية في الدلالة على أن الله تعالى أبدع هذه الأرض صالحة، آية أخرى هي قوله سبحانه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} (فصلت: 9 – 10).

فالله عز وجل بارك في هذه الأرض وجعل فيها أقواتها بحيث تكون ممهدة مهيأة للإنسان تكفيه، فلا يحتاج إلى غيرها متى ما نشط وعمل فيها، ولذلك ما يسمى في عالم الاقتصاد «بندرة الموارد» وهي فكرة اقتصادية تعبر عن العلاقة بين الرغبات الإنسانية وبين وسائل إشباعها ليس على إطلاقه، فإن السلوك البشري يعتمد في كثير من نشاطه «سوء استخدام الموارد».

وما يؤكد حقيقة أن الأرض كافية للإنسان بشرط العمل، أي «حارث وهمام» أن العالم الاقتصادي توماس مالتوس أطلق نظرية تتصل بالتكاثر السكاني يذكر فيها أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية في حين أن الإنتاج الزراعي يزيد وفق متوالية حسابية، وهذا يعني أنه مع الوقت جزء كبير من سكان الأرض لن يجدوا فوق هذه الأرض غذاء يكفيهم.

لكن الذي حدث أنه مع التقدم الصناعي ودخول آلات الإنتاج الزراعي الحديثة أصبحت الأرض تنتج أضعاف أضعاف ما كانت تنتجه في السابق، وهذا يحقق كيف أن الأرض صالحة، وكيف أنها مباركة، مقدر فيها أقواتها.

والذي يعنينا في هذه النقطة أن الله تعالى خلق هذا الكون ومعه هذه الأرض على أساس صالح، وهذا الأساس يقوم عليه الإصلاح، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (الأعراف: 56).

ويلاحظ أن الفساد الأكبر في الأرض الذي يتبعه كل فساد هو الكفر بالله ومن ثم فإن الإصلاح الأكبر والذي يتبعه كل إصلاح هو تحقيق التوحيد. ولذلك فالإصلاح الإنساني لا بد أن يكون في سياق الإصلاح الإلهي، وإلا لم يكن إصلاحاً.

وحينئذ يجب أن يقوم الإصلاح الإنساني على ركيزتين لا تغني إحداهما عن الأخرى حتى يتوافق مع الإصلاح الإلهي، وهاتان الركيزتان هما:

أ) أن يكون الإصلاح على وفق سنن الله في الخلق والكون، وهذه السنن لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابي أحداً دون أحد، ومنه ندرك أن تخلف الأمة الإسلامية في كثير من ميادين الحياة بسبب إغفال هذا الجزء المهم من الإصلاح، الذي قد يتجاهله بعض الناس ولا يرونه إصلاحاً والأشد من ذلك أن يعدوه إفساداً.

ب) والركيزة الثانية هي أن يكون الإصلاح الإنساني على وفق سنن الله تعالى في الشرع، فلا تنهج طريقة في الإصلاح لا توافق شرع الله، ذلك أن الشرع جاء بتقرير الفطرة وتعزيزها، والإنسان حتى لو ادعى الإصلاح ودعا إليه إذا خالف الشرع في دعوته فإنه يخالف الفطرة مما يعني فناء إنسانية الإنسان، وفناء إنسانية الإنسان مقدمة لفناء الإنسان أيضاً، ولذلك «إذا ضيعت الأمانة فارتقب الساعة».

2- ومن هذا النص الكريم وغيره يتبين أن الفساد في الأرض إنما يكون عن الناس، ويلاحظ أن الخطاب القرآني توجه إلى الجماعة: {وَلاَ تُفْسِدُوا} (الأعراف: 56).

ولم يتوجه إلى الإنسان وحده في خاصة نفسه، ومن العبر في ذلك -والله أعلم- أن الفساد الذي يضر بحياة الناس على هذه الأرض هو فساد الجماعة لا فساد الأفراد، ذلك أن فساد الجماعة يتحول إلى فساد منتظم ممنهج، وممارس بشكل واسع لينذر بخطر ماحق لحياة البشر، أما فساد الأفراد فيبقى في نطاق ضيق ولا يمثل نظاماً ولا ثقافة، كما لا يمكن أن يسلم منه مجتمع، بالإضافة إلى أن الدولة أو الجماعة باستطاعتها السيطرة عليه ومعالجته.

ونخلص من هذه العبرة في «ولا تفسدوا» إلى أهمية أن تنظم أحوال الجماعة شريعة وتطبيقاً، وإذا انتظمت أحوال الجماعة انتظمت أحوال الأفراد.

3- ومن هذا النص الكريم نعرف أيضاً: أن الإفساد بعد الإصلاح أشد جرماً من الإفساد بعد الفساد وعكس القضية أن الإصلاح بعد الفساد أعظم أجراً من الإصلاح بعد الصلاح.

4- والإصلاح في هذه الآية – كما يقول المفسرون – موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشيء صالحاً وجعل الفاسد صالحاً؛ فالأول الذي هو إيجاد الشيء صالحاً هو ما خلق الله تعالى عليه هذا الكون أرضاً وسماءً، وهذه النفس البشرية بولادتها على الفطرة السوية، والثاني الذي هو جعل الفاسد صالحاً هو الذي من أجله أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب.

هذا والنصَّ الثاني الذي نقف عنده هو قول سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة 11 – 12).

وهذا النص الكريم يعالج ناحية أخرى تتعلق بالإصلاح وإن لم تكن من صميم مفهومه، وهي تخص «مدعي الإصلاح» فهل كل من ادعى الإصلاح هو مصلح؟ الجواب بلا شك واضح ولا يحتاج إلى تقرير؟ لكن ما الذي نقرؤه من وراء هذا الجواب؟

يتعلق بهذا الجواب ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أن دعوى الإصلاح دعوى عزيزة شريفة كل يتبناها ويعجبه أن يدعيها، حتى من كان مفسداً بيّن الفساد مثل فرعون؛ فقد أظهر نفسه في مظهر المصلح في مقابل موسى عليه السلام، وقال في ذلك: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر: 26).

وتوارد البشر على دعوى الإصلاح هذه يدل على فطريتها في الإنسان، وفطريتها عامل مساعد لإنجازها، ولكنها – أيضاً – عامل مساعد لخداع الناس عن طريقها، وهذا ما كان من فرعون لقومه (فاستخف قومه فأطاعوه).

المسألة الثانية: وقد يكون المفسد معتقداً في نفسه أنه مفسد لكنه يكابر، والأخطر منه والأشد ضرراً، من يعتقد في نفسه -مع إفساده- أنه مصلح، ولربما غَرَّ بهذا الوثوق بمنهجه غيره ممن يغرّه الإصرار على المواقف لا حقيقة المواقف.

وفي هذا النص الكريم ترى كيف كان جواب المفسدين حاسماً أنهم مصلحون باستخدامهم أداة «إنما» التي تقتضي الحصر في كونهم مصلحين، والأدهى من ذلك أنهم لا يشعرون. قال البيضاوي: وإنما قالوا ذلك: لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (فاطر: 8).

المسألة الثالثة: أن تقرير المصلح من المفسد مرده إلى الله تعالى، ويُضَمُّ إلى هذه الآية في إفادة هذا المعنى قوله عز وجل: {وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 220).

وإذا تقرر ذلك، فالشريعة إذاً هي من تحدد مسائل الإصلاح من مسائل الإفساد، وهذه نقطة جوهرية إليها مردُّ الموضوع برمته وعليها مداره.

ومعنى ذلك أن الإصلاح مسألة شرعية، ينبغي أن يخضع للشرع في مضمونه، وفي وسائل إجرائه.

أما مضمونه فيستعان للتحقق منه بأصول الشرع وقواعده الكلية، وأما وسائله فيستعان بأدلة الشرع الكلية والجزئية ويضاف إلى ذلك فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد والنظر في المآلات وتقريرات المصالح المرسلة ويجمع ذلك استخدام السياسة الشرعية. والوسائل تشتبه على كثير من الناس أكثر من اشتباه المضامين، ولذلك كان من المهم جداً أن تخضع للتقرير والضبط، ومن أهمها في نظرنا أن تخضع لمقصود الشارع كالمضامين تماماً من حيث تحقيق رضى الله تعالى بالبعد عن الهوى، فإن الهوى إذا صار بعض مقدمات المضمون لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وهذا يبين أن الوسائل والمضامين كلها تحت قانون الشرع الكلي الذي هو تحقيق عبادة الله تعالى ومما تضبط به وسائل الإصلاح أن يعتبر فيها الأغلب والأكثر في توصلها إلى الغرض الإصلاحي الذي هو المضمون، فإن «الغالب الأكثر معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت». وأيضاً أن تكون هذه الوسائل جارية على قواعد الشرع وعاداته وإن لم يشهد لها أصل معين وهو الذي يسمى بالمصالح المرسلة، لأنها ملائمة لقواعد الشريعة.

وبذلك يتضح أن الإصلاح سواء في مسائله «مضامينه» أو وسائله هو قضية شرعية، «والشرع وافٍ بسياسة العالم، وبمصالح الأمة» سواء في ضرورياته الخمس التي تأصلت في الكتاب وتفصلت في السنة، أو في حاجياته التي تدور على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق، أو في تحسيناته التي ترجع إلى مكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات.

ومن هذا النص الكريم ننتقل إلى النص الثالث وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117).

وعندما تقرأ هذه الآية الكريمة ربما يتبادر إلى ذهنك: أن الله عز وجل حينما نفى أن يهلك أمة بسبب ظلم أن يكون ذلك راجع إلى أنهم عادلون، ولكنك ترى أن الجواب كان {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

وقد ذكر بعض المفسرين، أن التعبير بـ «مصلحون» هو بسبب تقدم ذكر المفسدين في قوله سبحانه: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} (هود: 116).

وقد يكون من الجائز أيضاً: أن التعبير بالإصلاح بسبب أن الإصلاح أعمُّ من العدل، ولذلك مُيز الإمام – في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله – بهذه الصفة: «إمام عادل» بينما الناس عموماً يوصفون بالصلاح والإصلاح، فالعدل يكون في الحقوق وبين الناس، والإصلاح يعم جميع الشؤون.

وبعد أن حررت هذه الكلمات وجدت ما يشير إليه عند بعض المفسرين، فقد ذكر أنه ليس من سنة الله تعالى أن يهلك القرى بظلم يقع فيها وأهلها مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية، وأحكامهم المدنية والتأديبية، فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب، ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار يتعبد الضعفاء كقوم فرعون.

هذا ويستفاد من هذا النص الكريم فائدة في غاية الأهمية، وهو أن هذا التعبير القرآني المحكم يكشف لنا عن مسألة محورية في قضية الإصلاح وهي: أن الإصلاح في المقدمة من الأولويات!

إن النصَّ الكريم ينص على أن قضية الإصلاح قضية وجود، فالهلاك متحقق عند فقده والنجاة متحققة عند وجوده، إذن الإصلاح شرط النجاة وينتج من اعتبار الإصلاح قضية وجود، اعتباره أي «الإصلاح» قضية ضرورة، وإذا كان الإصلاح من الضروريات كان في مقدمة الأولويات.

ثم إن الإصلاح يتقدم من كونه قضية وجود كما يدل عليه هذا النصّ الكريم، إلى كونه قضية تمكين بما يعنيه هذا التمكين من الاستقرار السياسي، والرخاء الاقتصادي، والازدهار الحضاري ويدلُ على ذلك قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105).

وقد نكون قصرنا في التعبير عن التمكين بما ذكرنا آنفاً فهو قبل ذلك وبعده يعني تحقيق الشخصية المسلمة في النفس، ومن ثم تحققها في الوجود كما يدلُ على ذلك قوله عز وجل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41).

وقوله سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110).

فالأمة المسلمة تحقق وجودها ومن ثمَّ شخصيتها وتمكينها بالإصلاح الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الإصلاح – كما يقول ابن تيمية – «هو صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن صلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس».

ونخلص ومن خلال قراءة هذه النصوص القرآنية إلى محددات رئيسة للإصلاح هي بمثابة القواعد لهذه القضية المهمة.

فالمحدد الأول: أن الإصلاح فطري في الإنسان، وهو فطري أيضاً في مجموع الأمة، ومعرفة فطريته مهم في تحقيقه، ومن ثم في حسن التعامل معه وتوظيفه إيجابياً.

والمحدد الثاني: ضرورته – كما تقدم – وضرورته تبين مقدار الحاجة إليه في حياة الإنسان «الفرد والجماعة».

والمحدد الثالث: في كون الإصلاح قضية شرعية ابتداء من إصلاح العقيدة إلى إصلاح أوضاع الحياة، وقد مر بنا في قوله تعالى عن شعيب وقومه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (هود: 84 – 85).

—————————————

المصدر: صحيفة الجزيرة السعودية.

[ica_orginalurl]

Similar Posts