الحج أحد أركان الإسلام، وعبادة شرعها الله لعباده الزعماء بها، وقربى من أجلّ القربات التي يتوسل بها المرء إلى رضوان ربه…

د.عطية الويشي

الحج

في هذه المقالة مزيد من الضوء على بعض المعالم في مسيرة الحج المباركة.

حين يتسنى لنية حج البيت الحرام أن تنبت بين جوانح مؤمن ما… فإن الأمر لديه يتجاوز بكثير ما درج السائحون عليه في المعمورة من معاينة آثار تاريخية مجردة، وزيارة مواطن ذات أصول وذكريات ممتدة في عمق التاريخ، فتطبع في دواخلهم الدهشة والإعجاب… بل الأمر يتجاوز تلك الظواهر نافذًا إلى لباب من المعاني العبادية والانطباعات الروحية والوجدانية الممزوجة ببركة الله عز وجل، والتي تمد الإنسان المسلم بزاد الحياة الطاهرة الحرة الكريمة.

فالحج أحد أركان الإسلام، وعبادة شرعها الله لعباده الزعماء بها، وقربى من أجلّ القربات التي يتوسل بها المرء إلى رضوان ربه… بيد أن الغالب فيمن حاز الاستطاعة المادية من الناس: أن تغيب عنهم حيازة القدرة على التأمل وفهم المعاني واستيعاب الدلالات الباهرة لتلك الشعيرة العظيمة… بل قد يغيب في سياق ذلك: تقنين المقاصد والمنطلقات التي يتأسس عليها بناء الفريضة من أصلها، فكثر أولئك الذين أهلكوا أموالهم، ونال منهم جهد السفر ومشقته دون أن يلووا على حظ معتبر من رحلة حجهم.

ومن ثم نلقي مزيدًا من الضوء على بعض المعالم في مسيرة الحج المباركة، لعل السائرين أن يتقوا بها الزلل والانحراف بلوغًا إلى مرادهم الأسمى من تلك الشعيرة الأثيرة.

معالم على طريق الحج

أولاً: الاستطاعة المادية

والاستطاعة المادية تمثل بالنية الصادقة: منطلق الرحلة إلى بيت الله الحرام “… وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” (آل عمران:97). ولعل أجمل ما تنبىء عنه تلك الانطلاقة المباركة: إيثار الله بكسر شهوة حب مالٍ استغرق جمعه في الغالب من جهد الإنسان وصحته ومن زبدة عمره قدرًا كبيرًا. ولكن الأجمل: تجاوز عادة بعض الناس في أداء الفريضة، فتحري الحلال الذي لا يغادر شبهة في مال الحج: أمر بديهي يقتضيه معنى السفر إلى الله، وبأي زاد؟!

ونحن إنما نعني بالاستطاعة: حصول المال الحلال مبرورًا لا شبهة فيه ولا سحت… فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، فناتج الربا والبيوع الفاسدة والمقامرات، والاتجار في المحرمات وسائر ما كان كسبًا مما دارت حوله الشبهات… ليس من الطيب الجدير بمعاملة الله به.! وألا تكون الاستطاعة كذلك غرمًا من دين أو رهن ونحوه في عنق من فرض الحج.

والشاهد من ذلك: مغالبة النفس على تحري الحلال في تأسيس ما يشرع له الإنسان من مشروعات في كل حال من أحوال حياته المعتادة، باعتبار أن الدنيا بالنسبة للمسلم مزرعة للآخرة… “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ…” (القصص:77). فدنياه بمثابة رحلة بدأها بلفافة، وانتهى منها بكفن غير مخيط…! والأمر في كل ذلك مُـشاكل لملابس الإحرام في معانيها ودلالاتها التي تشده العقول والقلوب إلى مكاشفة معنوية عن قضية الموت والدار الآخرة… الأمر الذي يستوجب مراجعة المسلم نفسه، وتوفيق أوضاعه وسائر أحواله على نحو يرضي الله عز وجل عنه.

ثانيًا: التوبة النصوح

والتوبة النصوح تعكس مدى تفهم المسلم لطبيعة ما يمارس من شعائر الحج، واستشعاره عمق معانيها وجلال قدرها… ولكن ثمة أقوامًا يفرضون الحج ولم تنفك قلوبهم بعد عن معاقرة الخصال الذميمة والصفات الدنية والأخلاق السيئة… يفرضونه وقد أثقلت كواهلهم حقوق الناس المضيعة،! متوزرين بالمظالم التي أبطأت بهم عن بلوغ ما يرجوه الناس من حج مبرور.!!

ولئن كانت التوبة واجبة في كل حال من أحوال المسلم، فإن وجوبها أوكد في حال الحج، فحري بمن يمضي إلى ضيافة الله أن يتخفف من الأوزار، فلا يلتاث قلبه بما يعكر عليه صفاء نفسه أو يفسد عليه لذة الاتصال وكرامة اللقاء…! والتوبة لا تكون نصوحًا حتى تستكمل شرائطها الثلاث: ترك المعصية والاقلاع عنها، والندم على فعلها، والعزم على عدم الرجوع إليها. أما إذا كانت المعصية متعلقة بحق من حقوق العباد: فقبول التوبة مرهون برد الحق إلى أهله أو استبرائهم منها فضلاً عما سبق من شروط.

ثالثًا: إخلاص النية لله تعالى

فالنية هي معيار قبول الأعمال من عدمه (إنما الأعمال بالنية وإنما لامريء ما نوى) (رواه البخاري ومسلم) فمن كان حجه رياءً وسمعة والتماسًا للشهرة والألقاب: فحجه مردود عليه لا حظ له عند الله فيه… قال تعالى: “مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (هود: 15، 16).

ولعل إخلاص النية في الحج وابتغاء وجه الله به: من محددات الوجهة الصحيحة لجوارح الحجيج لا سيما جارحة القلب، بعيداً عن نزق الهوى وصوارف الرئاء والشركيات المهلكة. بل إنه مدعاة ضرورية إلى التفات الحاج عن تلك الصوارف إلى تقنين وتجويد ورعاية جانب الله في أداء المناسك.!

رابعًا: التحلل من الدنيا

ثمة ترادف معنوي ومشاكلة تربوية بين مقدمات وملابسات كل من الحج والموت… الأمر الذي يوحي بشيء من المحاكاة في بعض الترتيبات والممارسات بين الظاهرتين كلتيهما… ومن ثم يكون لطيفًا أن يتحلل المرء من ملابسة أحوال الدنيا حين يتحلل من ملابس دنياه المعتادة بالإحرام، فيصير إحرامه معنىً ومبنى… أما والحاج لا يزال بمعاقرة الدنيا اشتغالاً بشئونها وإشفاقًا من هَمِّ إدبارها، منخلع القلب حسرانًا عليها، حتى لتحول بينه وبين التعرض لنفحات الحج وبركاته ومكاشفاته وفيوضاته… “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32). فنبذ الدنيا في هذا الجو الأثير من الأمور المندوبة شرعًا والمستحبة، حيث يتاح للإنسان التحليق في فضاء الربانية بطمأنينة وراحة نفس…؛!

وثمة بعض التدابير التي ينبغي على المسلم توخيها بين يدي تحلله من أمر الدنيا:

  • براءة الذمة من حقوق الغير المعنوية، فيرد المظالم ويفض المنازعات والمشاحنات، ويلتمس ود الناس ومسامحتهم في الله… ويأتي في مقدمة هؤلاء: الوالدان، بأن يجتهد من فرض الحج في برهما وإرضاهما وإدخال السرور عليهما، ويرجوهما الدعاء له بالقبول والتيسير…؛!
  • قضاء الديون، ورد الودائع، وكتابة الوصية الشرعية والإشهاد عليها، كما يستحب أن يؤكد وصيته إلى أهله وبنيه بتقوى الله عز وجل والإعتصام بحبله…

خامسًا: زاد الرحلة وصحبة الطريق

والزاد المجرد ليس المراد بعينه، وإنما ذلك الرافد الإيماني الذي يمد المسافر إلى الله بإلهامات السلامة وحسن القصد وبر العمل حتى يشبع منه نهمته ويرد لهفته ويبلغ مبتغاه… “وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ” (البقرة:197). فغير خافٍ على كل حصيف نبيه: أن تقوى الله في هذا السياق أجدر بالاعتبار ونصب الأعين، لا سيما وأن فريقًا من الحجيج من يهمل مصحفه ويذهل عن الذكر والدعاء والتأمل في آلاء الله من حوله… ولا يتخول نفسه بالموعظة والاستغفار… مستظهرًا من وسائل اللهو والتسلية الحرام ما يعفيه بظنه من وعثاء السفر، فيصطحبون أشرطة الأغاني الهابطة القبيحة فضلاً عن الدفوف المجلجلة ووسائل اللهو الأخرى من تدخين التبغ وتخزين القات وغيره مما ليس بجميل ولا لائق بين يدي هذه الترحال الرباني المبارك.!!

كما ينبغي على الحاج أن يتوسل إلى الله بخير الصحبة الطيبة في سفره، والتي تعينه على طاعة الله وتنأى به عن الوقوع في الصخب والغيبة والجدل والمعاصي والمخاصمات…؛!

فاختيار الرفيق قبل الطريق: قول معتبر في سياق رحلة قد لا يتوافر خيرها وبركتها مرتين في حياة الإنسان المسلم، وصحبة الصالحين تعلي الهمة في تحصيل الخير وتؤنس وحشة الطريق بالطيب النافع المفيد لا بالتافه الضار الخبيث… بل وتستحث المسافر أن يعض على زاده من التقوى بنواجذه:

    “أترضى أن تكون رفيق قوم             لهم زاد وأنت بغير زاد؟!”

وبعد… فتلك سطور اكتتبناها أملاً أن تكون معالم على طريق الحج إلى بيت الله الحرام… نسأل الله أن يقينا بها الزلل والإنحراف والحول عن سبيله،! وأن يرزقنا البصيرة بلوغًا إلى هداياته ورضوانه.

والله من وراء القصـد،،،

يسعدنا تصفح القارئ الكريم لملف الحج لعام 2016

الحج.. تلبية القلوب لنداء السماء (ملف خاص)

[ica_orginalurl]

Similar Posts