صورة لرجل يسجد أثناء الصلاة.

دعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس, رحمة منه بهم, وهيأ لهم فيها أنواع العبادة, لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.

دعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس, رحمة منه بهم, وهيأ لهم فيها أنواع العبادة, لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.

وكان سر الصلاة ولبها إقبال القلب فيها على الله, وحضوره بكليته بين يديه, فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه, كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطاياه وزله مستمطرا سحائب جوده وكرمه ورحمته, مستطعما له ما يقيت قلبه, ليقوى به على القيام في خدمته, فلما وصل إلى باب الملك، ولم يبق إلا مناجاته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا وشمالًا، أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، و أقلّه عنده قدرًا عليه، فآثره عليه، وصيَّره قبلة قلبه، ومحلَّ توجهه، وموضع سرَّه، وبعث غلمانه وخدمه ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضًا عنه ويعتذروا عنه، وينوبوا عنه في الخدمة، والملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده و سعة برّه وإحسانه تأبى أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع، فيصيبه من رحمته وإحسانه؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، وبين الرضَّخ لمن لا سهم له قال تعالى: “وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” (الأحقاف :19).

والله سبحانه وتعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه واختصه له، وخلق كل شيء له، ومن أجله كما في الأثر الإلهي: “ابن آدم خلقتك لنفسي، وخلقت كلِّ شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له”.

و في أثر آخر: “ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فُتَّك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلّ شيء”.

وجعل سبحانه وتعالى الصلاة سببًا موصلًا إلى قُربه، ومناجاته، ومحبته والأنس به.

متى تحدث الغفلة؟

وما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة، والإعراض والزَّلات، والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، وينحيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيًا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره، وغله، وقيَّده، وحبسه في سجن نفسه وهواه.

فحظه ضيق الصدر، ومعالجة الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات، ولا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمة ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء، والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.

فبالوضوء يتطهر من الأوساخ، ويُقدم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن: فظاهره: طهارة البدن، وأعضاء العبادة.

وباطنه وسره: طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” (البقرة 2: 222).

وشرع النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: “اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين”.

فكمَّل له مراتب العبدية والطهارة، باطنًا وظاهرًا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة.

فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباق.

وبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين.

من تمام العبودية الذهاب للمسجد:

وبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين.

والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف التذلل والانكسار، فقد استدعى عطف سيده عليه، وإقباله عليه بعد الإعراض عنه.

وأُمر بأن يستقبل القبلة -بيته الحرام- بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، طرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كله إليه.

عبودية التكبير “الله أكبر”:

وأُمر بأن يستقبل القبلة (بيته الحرام) بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، طرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كله إليه.

وأقبل بكليته عليه، ثم كبره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء، وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دل على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، وكان قوله “الله أكبر” بلسانه دون قلبه؛ لأن قلبه مقبل على غير الله، معظمًا له، مجلًا، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حق قوله: الله أكبر والقيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه وبين الله تعالى.

_____________________________

المصدر: كتاب أسرار الصلاة للإمام ابن القيم.

[ica_orginalurl]

Similar Posts