د/ صبري الدمرداش

ابن رشد

كان يكفي ابن رشد أن يشير إلى ما يلاقيه الذهن من صعوبة في تتبع البراهين العقلية، وأن ينصح بإبعاد غير العلماء عنها.

يستكمل الفقيه حديثه للحائر عن الإيمان و العقيدة القوية المتمثلة في رؤية الله من منظور الفلاسفة الذين عبرت أقوالهم وكتاباتهم عن ذلك بقوة، بعد أن حدثه عن رؤية علماء الطبيعيات في أمسيتهم الأولى…

ابن رشد:

الفقيه: كان ابن رشد يستصعب الأدلة المركبة كدليلي الحدوث والوجوب اللذين قال بهما الفلاسفة في الاستدلال على وجود الله، وكان يفضل عليهما دليل النظام الذي يسميه (دليل العناية والاختراع).

ولكن يؤخذ عليه محاولته إضعاف معظم الأدلة التي قام البرهان العقلي القاطع عند العقلاء على صحتها. وكان يكفيه أن يشير إلى ما يلاقيه الذهن من صعوبة في تتبعها وأن ينصح بإبعاد غير العلماء عنها. فكأنما كان في هجومه على الأدلة الأخرى كالتاجر الذي يريد أن يُكسِّدَ بضاعة نظيره لتروج بضاعته هو.

حيران: له أن يفعل ما يريد.

الفقيه: ما هذا يا حيران؟ حسب الباحثين عن مرضاة الله التآزر على نصرة الحق من كل الطرق التي تُفضي إليه.

إكونياس:

الفقيه: لو سمعتَ يا حيران كلام إكونياس مثلاً في وجود الله وخلقه للكون لحسبت أنك تسمع بعض فلاسفة الإسلام يتكلمون!

حيران: ماذا يقول إكونياس؟

الفقيه: يقول: إن عقلنا يستمد المعرفة من الحواس. ولكن هذا العقل الذي خلقه الله فينا هو قوة منظمة تستطيع تنظيم التنبيهات الحسية وتحويلها إلى أفكار كلية وأفكار مجردة. ولكن معرفة العقل المباشر مقصورة على عالم الحس وليس في مقدوره أن يعرف- من طريقٍ مباشرٍ- عالما فوق المحسوس ووراء الطبيعة.

وإن كان في مقدوره – بالقياس والمقارنة- أن يستمد معرفة غير مباشرة لوجود الله، ويدرك أنه الخالق لكل المخلوقات، وأنه واحدٌ أحد لا يتعدَّد ولا يتحوَّل ولا يحيط به زمان أو مكان، لأن سر العالَم الموحَّد لَيكشف لنا عن عقلٍ واحدٍ وقانونٍ واحد.

 أما ما وراء ذلك من أسرار الغيب فالعقل عاجزٌ عن إدراكه، كما أنه يصعب عليه تصور الأمور غير المادية كالروح؛ لأن تجاربنا الخارجية كلها مقصورة على ما هو مادي، بل هو عاجزٌ عن إدراك كثير من حقائق الحياة فما من عالمٍ قد عرف حتى الآن حقيقة ذبابة!

الجميع: كلام عظيم.

الفقيه: والأعظم طرق الاستدلال التي سلكها إكونياس في إثبات وجود الله.

حيران: ما هي؟

الفقيه: ثلاثة، كتلك التي اعتمدها الغزالي وابن سينا وابن رشد:

  1. الدليل الأول: دليل الحدوث: فالحركات كلها تنشأ من حركاتٍ سابقة، وهذه تنشأ من أخرى قبلها، وهذه إما أن تنتهي إلى محركٍ أول أو أن تستمر في النشوء من حركاتٍ أسبق بتسلسل لا نهائي، وهذا مستحيلٌ عقلاً.
  2. الدليل الثاني: دليل الوجوب: إن ما في الكون هو من (الممكن الوجود) بمعنى ما قد يكون ولا يتحتم أن يكون. وهذا (الممكن) لا بد أن يعتمد على (الضروري) الذي لا بد أن يكون وهو (الواجب الوجود)، وهو الله.
  3. الدليل الثالث: دليل النظام: إذ الكون بكل ما فيه ومن فيه ينطق ببديع النظام وحبكة الإحكام، هذا ما يشاهد في صغيره وكبيره وفي حيِّه وجماده، ولا يمكن أن يوجد النظام والإحكام بغير منظمٍ حكيمٍ وهو الله.

أبو العلاء المعري:

أبو العلاء المعري

المعري

حيران: طالما سمعت، من الذين يتحدثون عن أبي العلاء أو يكتبون عنه أو يروون شعره، ما كان يدل على أنه كان ضعيف الإيمان بالله. وإني أحفظ من كلامه قوله:

قلتم لنا خالقٌ عليمٌ       قلنا صدقتم كذا نقولُ

زعمتموه بلا مكانٍ         ولا زمانٍ ألا فقولوا

هذا كلامٌ له خبيءٌ        معناه ليس لنا عقولُ

ألا يدل ذلك على ضعف إيمانه بالله؟

الفقيه: أعجب من أن تحفظ – يا حيران- هذه الأبيات ولا تحفظ قوله:

والله أكبر لا يدنو القياس له     ولا يجوزُ عليه كان أو صارَ

إن تلك الأبيات إنما قصد بها المعرِّي أن يشير إلى كلال عقله عن تصور معنى الزمان الحادث الذي لا زمان قبله، والمكان الحادث الذي لم يكن له وجود قبل خلق الكون، كما قال الغزالي. وأن هذه الإشارة إلى كلال العقل لا تدل أبداً على إنكار وجود الله الذي يدرك أبو العلاء أنه أكبر من أن يدنو من القياس له، أو يجوز عليه كان أو صار، أي لا يقاس وجوده الأزلي على وجود الأجسام المحدثة التي يقترن حدوثها –ضرورةً- بالمكان والزمان، ولولا حدوثها لما كان للمكان ولا للزمان وجود أو معنى.

حيران: وأليس هو القائل في البعث:

تحطمُنا الأيام كأننا       زجاجٌ لا يُعاد لنا سَبْكُ

الفقيه: تحفظ له هذا ولا تحفظ قوله:

إذا ما أعظمي كانت هباءً      فإن الله لا يُعييه جمعي

وقوله:

ومتى شاء الذي صوَّرنا        أشعر الموت نشوراً فانتشر

وقوله:

وأعجبُ ما نخشاه دعوةُ هاتفٍ      أتيتم فهبوا يا نيام إلى الحشْرِ

فيا ليتنا عشنا حياة بلا ردى          مدى الدهرِ أو متنا مماتاً بلا نشْرِ

وقوله بلسان المؤمن الخائف:

إن كان نقلي من الدنيا يعود إلى     خيرٍ وأرحَبَ فانقلني على عَجَلِ

وإن علمتَ مآلي عند آخرتي          شراً وأضيق فانسأ ربِّ في الأجلِ

فقوله “لا يعاد لنا سبكُ” لا يجوز أن يصرف لإنكار البعث بقدر ما يصرف إلى رأي العلماء الذين قالوا إن البعث إنما يكون بخلقٍ جديد، وأما قوله: “ومتى شاء الذي صوَّرنا أشعر الموت نشوراً فانتشر” فإنه يحمل في طياته برهانه العقلي على إمكان بعث الأجسام بقدرة الذي خلقها وصوَّرها وأنشأها أول مرة.

كذلك قوله في الروح:

أما الجسوم فللتراب مآلها        وعييتُ بالأرواح أنَّى تذهبُ

وقوله:

روحٌ إذا اتصلت بجسمٍ لم يزل            هو وهي في مرض الفناء المكمدِ

إن كنتِ من ريحٍ فيا ريح اسكني        أو كنتِ من نارٍ فيا نار اخمدي

وكلها أقوالٌ لا تقدح بحال في إيمان الرجل، ولا يفهم منها سوى الإشارة إلى أن الروح شيء غير الجسد وأنها تتصل به لتقاسي هي ألم الحبس ويقاسي هو ألم الحياة، وأن أبا العلاء لا يدري ما هي الروح، وهل لها وجود مستقل عن الجسد أم هي شريكة الجسد في حياته وتفنى بموته، ويجره كرهه للحياة إلى افتراض كونها ريحاً أو ناراً كما زعموا ليتمنى سكونها أو خمودها. وكل هذا، مهما قلَّبنا وجوه الرأي، لا يقدح بحال في الإيمان، لأننا لا نعرف حقيقة الروح ولم يُفرض علينا أن نقول شيئاً فيها سوى أنها من أمر ربنا.

حيران: ألم يكن أبي العلاء ساخطاً متشائماً؟ أليس هو القائل عن مجيئه للحياة:

هذا ذنبٌ جناه أبي عليَّ       وما جنيته على أحد

الفقيه: لا ننكر، فإذا نظرنا في ديوانه وفي رسالة الغفران له، نجد فعلاً سخطاً وتشاؤماً مظلماً عنيفاً طاغياً جعل الرجل يتردد بسببه أحياناً بين الشك واليقين. وهذا قد يعتري الكثير من الأصحاء المبصرين الموسرين نكبة تنزل بهم أو أمل يخيب لهم، فما بالك برجلٍ يحمل في صدره طموح العباقرة ونفس الجبابرة إذا وجد نفسه – من أول يوم في حياته – كفيف البصر مشوَّه الوجه مجبوراً على العزلة محروماً من النشاط والحركة معرضاً لسوء الهضم مرغماً على الزهد يائساً من الناس.

 لقد كان من الطبيعي أن ينتج هذا كله شكاً في نفس أبي العلاء، وهو الشك الذي لا يأتينا أبداً في الحياة إلا من اختلاف الحظوظ ولا ينجو منه إلا الصدِّيقين، أحد ممن يفكرون في سر الأقدار.

فإن كل ما في الكون يدل على الله، ولكن الشك إنما يأتينا من شقاء الحياة واختلاف حظوظنا من حيث الصحة والمرض والفقر والغنى والعز والذل وطول العمر وقصره وما إلى ذلك.

ومع هذا ظل أبو العلاء معتصماً بإيمانه بوجود الله؛ لأن عقله السليم دله بالبرهان على ذلك اليقين الذي لا يمكن للعقول السليمة الإفلات منه، مهما اعتراها الكلال في إدراك كنه الذات العليَّة، أو في تصور الحدوث والقِدَم، والخلق من العدم، أو في تصور الزمان والمكان، ومهما ألحَّ عليها الشك الذي يثيره في نفوسنا اختلاف الحظوظ وغموض سر الأقدار.

إذا عرفت هذا عن المعرِّي وأنعمت النظر فيه – يا حيران- وذكرت للرجل استكانته وخضوعه لله، بتذللٍ لا يُتصوَّر الرياء فيه، أيقنت أن أبا العلاء رحمه الله كان –على سخطه وتشاؤمه- مؤمناً بل من أصدق الناس إيماناً بالله وصبراً على بلائه.

ديكارت:

رينيه ديكارت

رينيه ديكارت

وأما ديكارت فقد استخرج اليقين من الشك، وجعل من الشك نفسه سبيلاً لإثبات وجود الله ومعرفة صفات كماله.

حيران: كيف يتولد اليقين من الشك؟ وكيف يكون الشك سبيلاً لليقين؟

الفقيه: يقول ديكارت: مهما شككت في حواسي وعقلي، وشككت في وجود الكون، فإنه ستبقى لي حقيقة واحدة لا يمكنني الشك فيها لأنها تزداد يقيناً كلما ازددت شكاً. وهذه الحقيقة هي “إنني أشك” ومعنى أني أشك أني أفكر، لأن الشك تفكير والتفكير لا يكون إلا من ذاتٍ مفكرة، وهذه الذات هي “أنا” إذا حتى لو حاولت أن أشك في أني أفكر، فالشك نفسه دليلٌ على أني أفكر.

الجميع: ومن هنا وضع كلمته المشهورة: أنا أفكر، إذا أنا موجود؟

الفقيه: بلى، وعلى هذه الكلمة بنى ديكارت قواعد برهانه على صحة الحواس وصدق العقل، وتوصل إلى إثبات وجود الله، وعرف جميع صفاته المتوجبة عقلاً. ومن هذه القاعدة انتقل ديكارت إلى إثبات وجود الأوليات العقلية، ثم ترقى إلى الاستدلال على الله بدليلي الحدوث والوجوب.

حيران: ماذا تقصد بالأوليات العقلية؟

الفقيه: أفكارنا الفطرية مثل: الشيء لا يصدر من لا شيء، والمسبب لا يمكن أن يكون أكبر من سببه، وهذه الأوليات في حالة سلامة العقل تكون سالمة من الخطأ لأنها جزء أساسي من تكوين عقولنا ومنها نقتبس أحكامنا اليقينية كلها ونستدل على وجود الله.

وبعد ذلك ينتقل ديكارت إلى إثبات وجود الله فيقول: أنا أفكر إذن فأنا موجود. وما دمت موجوداً فمن أوجدني؟ إنني لم أخلق نفسي وهذا الحق، فمن خلقني؟ فلا بد لي إذاً من خالق. وهذا الخالق لا بد أن يكون (واجب الوجود) بمعنى أنه لا يفتقر إلى من يوجده أو يحفظ له وجوده، ومن ثم لا بد أن يكون متصفاً بكل صفات الكمال، وهذا الخالق هو الله.

وبعد أن يتخذ ديكارت من نفسه ووجوده ومن الكون الموجود دليلاً على وجود الله، يتخذ من الله ومن صفات كماله دليلاً على صدق عقولنا وصحة أحكامها دليلاً على وجود الله نفسه، فيقول: إن من صفات الكمال المتوجِّبة عقلاً لله صفة الصدق، ومعنى هذا أن عقولنا التي فطرنا الله عليها هي عقولٌ صادقة وقادرة على إدراك الحقائق الأولية، وهي التي تدلنا على وجود الله وصفات كماله وعلى أنه سبحانه خالق الكون ومبدعه.

العالم: نعم، هكذا تدرَّج ديكارت في استدلاله وتسامى: فاستدل بنفسه أولاً وبالكون على الله وكماله، ثم استدل بوجود الله وكماله على صدق العقول وعلى وجود الكون، فاتخذ الله دليلاً على مخلوقاته، بعد أن استدل على وجوده بمخلوقاته.

الفقيه: صحيح، وإنه ليصدق عليه قول الله تعالى: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت:53). فقد أراه الله آياته وهداه حين قال: إنني لم أخلق نفسي وهذا حق، فمن خلقني؟ فلا بد لي إذاً من خالق، إلى الحجة البالغة في قوله جل وعلا “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ” (الطور:35).

حيران: إن ديكارت اتخذ النتيجة التي بلغها في الاستدلال الأول أساساً للمقدمة التي استخرج بها تلك النتيجة، فكيف هذا؟

الفقيه: كأن ديكارت يقول: رأيت آية الله في نفسي بالبداهة، ثم رأيت الله بصفات كماله شاهداً على صحة عقلي الذي عرفت به الحق، فاكتفيت بالله شهيداً على كل شيء.

باسكال:

بليز باسكال

بليز باسكال

وهو تلميذ ديكارت، ويرى أنه لما كانت الحواس تخدع والعقل يخطئ، فبالقلب وحده نعرف الحق، نعرف معنى الزمان والمكان والحركة وغيرها من القضايا الأولية. ولو أردنا البرهان على هذه القضايا الأولية لوجب أن نفرض وجود قضايا أخرى سابقة، ولو قلنا بذلك لذهب بنا التسلسل ولما أمكننا الوصول إلى أي قضية أولية. فبالقلب ندرك هذه الحقائق، وبالقلب ندرك وجود الله.

حيران: القلب ذلك العضو العضلي الذي هو بمثابة مضخة للدم لا أكثر؟!

الفقيه: إن باسكال يعني تلك الأفكار الفطرية الراسخة في عقولنا، ولا فرق بين أن تكون في القلب أو في الدماغ أو في الروح. ولكن كلمة القلب كانت تعبر عن الدماغ وهكذا كان العرب يتخذونها.

حيران: إذن يرى باسكال أن الإنسان قادرٌ بعقله أو بقلبه على إدراك كل حقائق الوجود؟!

الفقيه: كلا يا حيران، إن باسكال أحكم من أن يرى ذلك. وهو يوضح نفسه في قوله: إن العقل يستطيع بما لديه من الأفكار الفطرية الأولية، أن يدرك الحق فيما يتعلق بالمبادئ الأولى ويدرك منها وجود الله.

وأما ما وراء ذلك من أسرار الخلق والخالق المحجوبة عنا بحجب الغيب فإننا نعجز أن ندرك كنهها؛ لأن حواسنا لا تدرك غايات الأشياء: فالصوت إذا أفرط في الشدة يصم أسماعنا، والضوء إذا أفرط يُغشي أبصارنا، والقرب يمنعنا من الرؤية إذا أفرط كما يمنعنا ذلك البعد، فتكاد غايات الأشياء تكون غير موجودة بالنسبة لنا.

ويضع باسكال الإنسان في موضعه الصحيح عندما يتحدث عن ضآلته بالنسبة للكون، وعجز العقل عن التفكير في الغايات، ويصف الرعب الذي يعتري الإنسان إذا تصور نفسه محمولاً بين هاويتي العدم واللانهاية. يقول: فلنعلم إذن قدرنا، فإننا بعض الشيء ولسنا كل شيء، ومقام عقلنا في المعقولات كمقام جسمنا في حيِّزه!

الجميع: قولٌ كريم.

الفقيه: وأكرم منه تلاقيه مع الفارابي وابن سينا حيث يقول: إن إدراكنا لوجود الله هو من الإدراكات الأولية التي لا تحتاج إلى جدل البراهين العقلية: فإنه كان يمكن أن لا أكون لو كانت أمي ماتت قبل أن أولد حياً. فلست إذاً كائناً (واجب الوجود) ولست دائماً أو (لا نهائياً) لأني سأموت. فلا بد إذاً من كائن واجب الوجود، دائم لا نهائي يعتمد عليه وجودي وهو الله الذي ندرك وجوده إدراكاً أولياً وبغيْر التورُّط في جدل البراهين العقلية. ولكن على الذين لم يُقدر لهم مثل هذا الإيمان الفطري أن يسعوا إليه بعقولهم.

وفي هذا يلقي باسكال حكمته الاجتماعية البالغة التي هي أشبه بكلام العارفين، حيث يقول: هناك صنفان من الناس فقط يجوز أن نسميهما عقلاء: الذين يخدمون الله جاهدين لأنهم يعرفونه، والذين يجدُّون في البحث عنه لأنهم لا يعرفونه.

حيران: ولكن باسكال لم يخرج في استدلاله عن الله عن (دليل الوجوب) وهو دليل عقلي مركب يقوم على الأوليات البديهية.

الفقيه: نعم يأخذ باسكال بدليل الوجوب لشدة ظهوره وبداهته وسرعة الاقتناع به. ثم أدرك أن هذه البداهة قد لا تتيسر لكل إنسان، فأشار إلى اللجوء للبرهنة العقلية للوصول إليها.

مالبرانش:

تلميذ ديكارت كذلك. وهو يقتصر في إيمانه بوجود الله على (الإلهام) وحده دون سواه، ومن ثم وضع نظرية “الرؤية بالله”.

حيران: ما معنى هذا؟ وهل يريد هذا الفيلسوف به ما قاله أستاذه من أننا نرى الله شاهداً على كل شيء، أم يريد به أننا ندرك بالعقل الذي وهبنا الله إياه؟

الفقيه: لا هذا ولا ذاك.

حيران: إذاً هو رجلٌ يدَّعي الإيمان.

الفقيه: مالبرانش من أشد المؤمنين بالله، ولكن عن طريق الأفكار الإلهية فهي وحدها التي تتمتع بالوجود، فنحن لا ندرك الكون بذاته وإنما ندركه بالله.

حيران: وما هي نظرية الرؤية بالله؟

الفقيه: ببساطة هي نظرية لا ترى لزوماً لإقامة البرهان على وجود الله، لأننا نراه بل ونرى به كل شيء. فلسنا نعرفه عن طريق الأفكار الفطرية ولا الأوليات البديهية التي تثبت وجوده بالبراهين العقلية، وإنما نحن نعرفه بالرؤية والبداهة المباشرة فحسب.

حيران: وما رأيكم في هذا النوع من الإيمان؟

الفقيه: يصح أن يكون من كلام الصوفية لا من كلام الفلاسفة الذين لا يعتمدون إلا على النظر العقلي الخالص. وليس بمستحيل أن ينعم الله على بعض عباده بهذه (الرؤية) ولكن هذا يكون في حكم الاستثناء، إذ القاعدة أن الإيمان يكون بالعقل الذي وهبنا الله إياه، وبالبراهين العقلية التي أعطانا سبحانه القدرة على تركيب مقدماتها واستخراج نتائجها.

العالم: صحيح، لأنه لولا ذلك لما دلَّنا ربنا في كتبه على تلك البراهين.

_____________________________

المصدر: بتصرف  يسير عن كتاب: للكون إله، د. صبري الدمرداش، الكويت،  مكتبة المنار، ط2، 2006، ص: 637:628

[ica_orginalurl]

Similar Posts