رسالة لكل تائه.. متحير.. متشكك.. باحث عن الحقيقة بصدق وعمق وإخلاص…

صفاء عزمون

البحث

تيقنت أن رحمة الله مطلقة بلا حدود، وأن حِلْمَه أكبر من أن تدركه العقول، أيقنت أن عظمته جل في علاه أكبر من كل شيء، وأدركت معنى أن الإنسان ظلوم جهول.

كانت كلمات “السير أنتوني فلو” تحمل في طياتها الكثير الكثير من معاني الحيرة والألم، هذا الرجل بعد أزيد من خمسين عاما من الإلحاد والدفاع عنه في كل مناظراته إلى الحد الذي اعتبر فيه أبا روحيا للإلحاد وأشرس أعلامه البارزين الذين أحدثوا ثورة في منهج الإلحاد، هذا الرجل يكتشف بعد سن الثمانين معلنا للعالم أن للكون إلها، وأن هذا الكون لم يوجد صدفة، فتخيب آمال مؤيديه ويتهموه بالخرف لأنه اتبع البرهان إلى حيث يقوده كما يصف منهجَه في الفلسفة.

لم أملك دموعي التي انهمرت وأنا اقرأ آخر عبارة له في الكتاب الرائع “رحلة عقل” للدكتور عمرو شريف، حيث قال “فلو” بعد أن أقر بإيمانه بوجود إله حكيم قدير وأنه لا مانع لديه من تقبل فكرة كشف الإله عن نفسه لمخلوقاته من خلال الوحي وإرسال الرسل، إذا وجد دليلا على ذلك، بعدها قال:” ربما يأتي اليوم الذي أسمع فيه من يناديني: الآن هل تسمعني؟ ” انتابتني مشاعر مختلطة من الأسف والأسى على حياة انسان ضاع في متاهات الحيرة، إن كلمات “فلو” قليلة لكنها اخترلت ذلك الصراع العنيف بين الفطرة الأصيلة والإلحاد الدخيل، وكشفت عن تلك الرغبة العارمة في الوصول إلى الله -سبحانه- والتواصل معه..

تساءلت بحزن كيف يستطيع الملحد أن يواصل الحياة وهو يعتقد أن مصيره الفناء ثم العدم، وكأنه لم يَكُ شيئا؟ يسابق وينافس ويكابد الحياة كل يوم وهو لا يحمل بين جنبيه هدفا مُخلِّدا؟ فحتى لو كان رجلا عظيما فبموته ينتهي وجوده، وبفناء الإنسانية يفنى ذكره!

تيقنت أن رحمة الله مطلقة بلا حدود، وأن حِلْمَه أكبر من أن تدركه العقول، أيقنت أن عظمته جل في علاه أكبر من كل شيء، وأدركت معنى أن الإنسان ظلوم جهول.

تساءلت بألم أنّى للملحد أن يتحمل مشاق الحياة وضنكها وهو لا يؤمن بالقوة المطلقة التي تقلب الموازين وتصنع المعجزات؟ كيف يحتملها وهو لا يؤمن بإله عظيم لا يعجزه شيء؟ إلى من يلجأ عندما تُوصَد في وجهه جميع الأبواب؟ عندما تبلغ الأزمات ذروتها بمَن سيَلُوذ؟ عندما يصير الأمر أكبر من أن يحتمل فبمن يستجير؟

عندما يضيق الصدر ويُغَامُّ على القلب وتسْوَّد الحياة في عيوننا، ولا نجد قرآنا نقرؤه فيزولَ ما بنا من هموم وتسطع شمس اليقين تنهي ليل غفلتنا وظلمات أحزاننا، كيف للناس أن تستمر في الحياة دون هذا البلسم؟ كيف للناس أن تحيا وهي لا تدري لِم أتَتْ ولا إلى أين تمضي؟ كيف يَحْيَوْن إِن كان شعارهم في الحياة: أرحام تدفع وقبور تبلع؟

تساءلت في نفسي عن مدى القهر الذي يكتنف نفس الملحد، عندما يُظلَم ولا يرى لنصرٍ سبيلا؟ وهو لا يحمل بين جنبيه إيمانا بأن فوق ذاك المُعتدي رَبًّا جبارا عادلا سيقتص للمظلوم من الظالم؟ كيف له أن يتحمل آلام الحياة: حروبها كوارثها ومآسيها وهو لا يؤمن بأن تَمَّتَ حياةً أخرى يحاسب فيها الظالم على جرمه ويجازى الصابر على صبره، حياةً يَبْنِي الإنسان لبِنَاتها كما يشاء فإما شقاء وإما سعادة.

الحقيقة الواضحة.. رحمة الله مطلقة بلا حدود

عندما تفكرت في كل هذا، لم أملك سوى اليقين بأن رحمة الله مطلقة بلا حدود، وأن حِلْمَه أكبر من أن تدركه العقول، أيقنت أن عظمته جل في علاه أكبر من كل شيء، وأدركت معنى أن الإنسان ظلوم جهول، ما وَفَّى الأمانة حقها فأفسد نفسه وأفسد ما حولها.. كيف يُمْهِل الله من ينكر وجوده، كيف يمنحه القوة ليجابه الحياة، كيف يهب الحياة كل يوم للجاحد!! فعلا يا له من إله صبور حليم، فعلا ما أحلمه من إله سبحانه.

ما معنى الحياة إن كان منهاجك أن تَسجُن روحك بين قضبان اعتقادٍ يناقض فطرتك؟ لتجلدك صرخات الروح بين الحين والآخر تطلب الحرية، تطلب أن تطلقها إلى السماء، تقاومك وتقاتلك لتكسِر ما فرضتَه عليها من أغلال تأبى إلا أن تلْحَق برَكْبِ النور. ما معنى الحياة إن اخترتَ أن تعيش فيها حيرانا لا تفهم نفسك: ذلك الخليط المعقد بين سمو الروح ودُنُو الطين، حياة لا تعرف نهجا توازن فيه بين جسدك الفاني وروحك المخلَّدة دون إفراط و لا تفريط، حياة تتناهشك فيها الشهوات ترميك بسهامها وتخرقك رماحها، وما إن تستسلم وترضخ لها حتى يأتي عليك ضنك العيش وتلتهمك آلام الغربة: ولا أشد إيلاما للنفس من الاغتراب عن الروح!

كُتِب للباحث عن الحقيقة أن يجدها مهما طال بحثه، فنور الفطرة عندما يستيقظ في قلب الإنسان يضيء له طريق الوصول، أقول لكل من أحرقت نارُ الشك قلبَه، لا يموت الشك بدفنه حيا، ما هكذا يقتل الشك! بل اسأل وابحث وفَنِّدْ الشك بالحجج والبراهين فالحقيقة واحدة لا تتعدد، واجعل اعتقادك بناءا ذا رسوخ في نفسك، فحجارة الشك التي تتعثر بها خطواتك لا تحطمها إلا معاول المعرفة، لذا لا تخجل ولا تخف من السؤال فالسؤال مفتاح العلم، والعلم تجده عند أهله لا عند العامة ولا عند السفهاء، فاقصد أهل العلم وأنت تطلب من خالقك أن يفتح بصيرتك فيجعلك ممن يستمع فيفقه لا ممن يعاند ويعرض.

إلى كل من أعرض عن ذكر ربه فكانت معيشته ضنكا، عُدْ فالله أعظم من أن يردَّك، عُدْ إليه فأنت كسير ووَحْدَه من بيده جَبْر كسرك، عُدْ فهو سبحانه يفرح بعودتك، عُدْ فإننا لا نملك أن نَفِرَّ من الله إلا إليه، كفاك ترددا وعنادا وعُدْ، عُدْ ومطيتك الصدق للوصول إليه قَدِّمْ افتقارك وانكسارك بين يديه ولك عَلَيَّ أن يشرح الله لك صدرا ضيقا ويَهْدِيَ قلبا حائرا، فقط تقدم ولا تتأخر..


المصدر: بتصرف يسير جدا عن موقع مدونات الجزيرة

[ica_orginalurl]

Similar Posts