أيهما أقدر على إعطاء معنى للوجود الإنساني وتوجيه سلوكه، النظرة الدينية أم النظرة الداروينية الإلحادية؟

عمار سليمان

البحث عن معنى

طريق البحث عن المعنى.. يسير فيه كل البشر.. منهم من يصل.. ومنهم من يفقد الخارطة!

يهرع الإنسان في هذه الحياة المكثفة بكافة أنواع البلاء إلى نظرٍ يأوي إليه، يطلب منه ما يعالج توتر نفسه، وما يؤسس ليقين قلبه؛ فالإنسان يمضي طالباً للمعنى ولا معنى دون الإقرار بوجود (الحقيقة)، وأي عملية منتجة للمعنى وللحقيقة لابد أن تمر عبر منهجٍ ورؤية.

يقول الدكتور الطيب بوعزة مبيناً أهمية حضور هذا المفهوم للإنسان: “يشكل المعنى في حياة الإنسان خصيصة تميز نمطه في الكينونة إلى درجة يصح معها تعريفه بأنه كائن رامز أو كائن منتج للرمز والدلالات _أي أنه كائن منتج للمعنى_”.

ومن خلال أهمية الرؤية للوجود والبحث عن المعنى يتشكل مفهوم الغاية الذي يعتبر من أخص خصائص هذا الكائن؛ فالإنسان الوحيد الذي يسأل عما بعد مماته ويتجه نظره نحو المقابر كما يتجه نحو حياته وملذاته، إذ لهذه الأسئلة طابع الحكم القهري على حياته فلا ينفك منها إنسان، وإن رام التخلص منها زادت من حضورها على عقله وقلبه.

هناك نظرتان _منهجان_ تتصارعان على الإنسان من زاوية تكوين رؤية للعالم، النظرة الدينية والنظرة الإلحادية، وفي هذا المقال وما يليه سأحاول أن أتفحص أيهما أقدر على إنتاج رؤية تتناسب مع طبيعة الإنسان من جهة ومنحه غاية لوجوده من جهة أخرى، وعليه سيباشر المقال بسؤالين منهجيين:

1- أيهما أقدر على إعطاء معنى للوجود الإنساني وتوجيه سلوكه، النظرة الدينية أم النظرة الإلحادية؟

2- أهمية الغاية للإنسان وأي النظرتين أقدر على إنتاجها بما يكفل ديمومة مغزى السعي البشري؟

إشكالية التأسيس الإلحادي

في الإجابة على السؤال الأول، من المعلوم أن الإلحاد بصورته الجديدة يتجه لحصر مصادر المعرفة في العلم التجريبي والذي كان نتاجاً لتطور تم عبر ملايين السنين؛ ومن الطبيعي والمنطقي والحال هذه أن ينحصر إنتاج المعنى داخل هذا السياق المادي الدارويني.

ولنفرض ونسلم جدلاً أن الإنسان هو نتاج لتطور مادي تم ضمن آلية التطور الداروينية، بناء على ذلك نحن أمام معضلة حقيقة استشعرها تشارلز دارون Charles Darwin نفسه حيث قال: “ينتابني دائماً شك فظيع حو ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، الذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى، لا تتمتع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة”.

الداروينية والإلحاد في مأزق!

ولقد طور الفيلسوف ألفن بلانتنجا Alvin Plantinga من هذا الشك برهاناً يضع الداروينية والإلحاد في مأزق حقيقي حيث يقول: “إذا كان العقل_ والذي هو الدماغ المادي_ قد طورته الطبيعة لتحقيق غاية بقاء النوع كما تفترض الداروينية في صورتها المعيارية، فإن هذا يعني أن أحكام العقل الأخرى إما ثانوية أو لا وزن لها، مثل حكم كون الفكرة “حقاً” من عدمها”.

وبشكل مختصر بما أن العقل تطور من كائنات أدنى فكيف سيكون ما تطور عنها (العقل) له قيمة ذات مغزى؟!، وما دام العقل من الزاوية الأخرى تطور ضمن خطة _البقاء للأصلح_ التي لا تُعطي معنى الحقيقة والمعيار أي اهتمام = فكيف نثق بهذا العقل الذي تطور ضمن هذه الآلية العابثة!، بالإضافة إلى أن البقاء للأصلح ممكن دون عقل، بل الأعجب وكما سنرى في السلسلة القادمة من المقالات أن العقل سيقف ضد البقاء للأصلح باعتبار معناه الأخلاقي.

وعليه نحن أمام انهيار لأداة من أهم الأدوات الأساسية لإنتاج المعنى والرؤية للوجود وهي إمكانية الإقرار بوجود الحقيقة عن طريق العقل، وباتخاذ هذه النظرة الداروينية ستنهار الرؤية الناظمة للحياة البشرة وينهار معنى الوجود ثم يسود ما أطلق عليه الدكتور حسام الدين حامد (وثوقية العلم).

لننظر للجانب الآخر الذي يؤسس لرؤية للعالم وغاية الوجود وهو الدين.

لا ينظر الدين إلى الإنسان ككائن أحادي لا يمتد نطاق وجوده خارج السياق المادي، بل يوسع نطاقه فيجعله بدناً ونفساً وروحاً وبهذا تتفتح لنا مسارات أوسع وأكبر لمصادر المعرفة.

في أول هذه المصادر (الفطرة).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس، والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس، حتى الصبيان، حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه، وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء، ذاك بهذا، من باب بيان الأجلى بالأخفى”.

ويقول العالم التطوري جستن باريت Justin Barrett المتخصص في دراسة الأديان من منظور علم النفس المعرفي:” فيما يتعلق بقدرة الله المبدعة، يبدو أن أطفال سن ما قبل المدرسة قادرون على إدراك أن الله هو خالق الأشياء الطبيعية لا الأشياء المصنوعة، وأن الإنسان يصنع الأشياء المصنوعة لا الطبيعية”.

فالإنسان لا يُخلق صفحة جرداء بيضاء كما يقرر جون لوك، بل يولد ولديه القدرة والأساس الذي يبني عليه باقي علومه، وبعد هذه الفطرة يقرر الدين أن للإنسان عقلاً هو مناط التكليف والتفكير، عقل يستطيع معرفة الخير والشر _وإن لم يكن بشكل مطلق _ يترقى من خلاله في اكتساب المعارف والعلوم وأيضا ينضج العواطف.

المصدر الثاني: (العقل الذي هو مناط التكليف)

يرفع الدين من قيمة الإنسان ويقر له بعقل هو مناط التكليف وبه كُرم، يتحسس الإنسان من خلاله وجود الحقيقة ويعلم وجودها وإن لم يحط بكليتها، ثم يترقى ويرتفع على سلم العلوم، ويكتسب فيها المعارف والأعمال ويستقبل به الشهوات ويحاربها، وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الحليم ابن تيمية _والد شيخ الإسلام: “الصحيح أن العقل لا يمكن إحاطته برسم واحد لكن المختار أن العقل يقع الاستعمال على أربعة معان إما بالاشتراك أو على أقل الاشتراك، ثم بعضها يطلق على ما تتم به الأربعة بالتواطؤ أو على بعضها مجازا.

الأول: ضروري وهو الذين عنى به الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنه بعض العلوم الضرورية لكنهم لم يجمعوا العقل بل ذكروا بعضه .

الثاني: أنه غريزة تقذف في القلب وهذا هو الذي يستعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية وتدبر الأمور الخفية، وهذا المعنى هو محل الفكر وأصله وهو في القلب كالنور وضوؤه مشرق إلى الدماغ، ويكون ضعيفا في مبتدأ العمر فلا يزال يربى حتى تتم الأربعون ثم ينتهي نماؤه فمن الناس من يكثر النور في قلبه ومنهم من يقل وبهذا كان بعض الناس بليدا وبعضهم ذكيا بحسب ذلك.

الثالث: ما به ينظر صاحبه في العواقب وبه تقع الشهوات الداعية إلى اللذات العاجلة المتعقبة للندامة وهذا هو النهاية في العقل وهو المراد بقوله إذا تقرب الناس بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك .

الرابع: شيء يستفاد من التجارب يسمى عقلا”.

وهذا معنًى بديع للعقل وإن كنّا لا نستطيع الجزم أن اكتمال نمو العقل يكون في سن الأربعين، وأما باقي التعريف ففي غاية الروعة والدقة في مقاربته.

المصدر الثالث (الوحي)

على أهمية العقل الإنساني فإنه ليس جوهراً مفارقا لكيان الإنسان لا يعتريه نقص، بل فيه من النقص ما في الإنسان وهذا لا يلزم منه انهيار مفهوم الحقيقة إسلامياً لسببين:

1- أن الدين يقر أن العقل يعي وجود الحقيقة والكثير من تطبيقاتها لكن ليس بشكل كلي، فهو يعي مثلاً أن الصدق حق والكذب باطل ولكن لا يستطيع معرفة بعض دقائق الحق والباطل كبعض دقائق التشريع وما بعد الموت، وصفات الخالق؛ لأنها تحتاج إلى وحي.

2- لأن الدين لا يحصر مصادر المعرفة بالعقل وحده أو بالدماغ كما تفعل الداروينية، بل يربطها مع الفطرة والوحي فلا يلزم من قصور العقل في بعض الجوانب انهيار الحقيقة نفسها لأنها تعتمد عليه وعلى غيره.

والعجيب أن العقل يعي قصور نفسه في معرفة (عين الحق) فيتجه نحو الخبر معتمداً على معيارية صدق المخبر (النبي) وهنا يأتي الوحي (عن طريق هذا النبي) ليحسم المناطق التي لا يستطيع العقل البت فيها ككيفيات العبادة ودقائق الأخلاق، وغاية الخلق و التعريف بالخالق، وبهذا تكتمل الصورة الدينية في تأسيسها للمعنى الوجودي للإنسان ومنها نحلق إلى أعظم غاية وهي غاية التعرف على الحق سبحانه.

__________________________________________

المصدر: موقع مقالات إسلام ويب http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=215770

[ica_orginalurl]

Similar Posts