حسين شعبان وهدان

اللهم بلغنا رمضان

الناس على درب استقبال رمضان أصناف

إنه الآن واقف بالباب يدقّ بيد العزم في طلب العلا والغفران وزيادة الإيمان، تلقاهُ في ربوع الأوطان من أرض الإسلام وهداية القرآن، في كل مدينة أو بلد أو قرية، بل وفي القفار والفيافي ينشر ضياء قدومه من الآن. يقف أغلى الأضياف قيمة وأعزهم قدرا وأكثرهم كرما على الأبواب أبواب قلوب الأحباب من حملة الكتاب وأتباع النبيِّ وقفاة سبل الأصحاب.. إنه رمضان يا ابن الإسلام.. ضيفك المعهود الحاضر الغائب في كل عام، يرفل في ثوب العطاء والمنح من طراز خاص، يقدم في العام كما تعلم مرة، ولكنه قدوم يملأ الدنيا رحمة وبهجة إيمانية غامرة لا تستشعرها القلوب إلا فيه، وسبحان من جعل أجمل الأرزاق فيه ما كان حظا للقلوب المطمئنة.

إن شهرًا نزل فيه القرآن ليكون هداية الأبد للأمة لكفيلٌ بحسن الاستقبال، وشهرٌ تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبوابُ النار حري بحسن الاستقبال، وشهرٌ فيه ليلةٌ يزيد عطاؤها بكل المعاني عن ألف شهرٍ حريُّ بحسن الإستقبال، إضافةً إلى ما فيه من الوعد الحق بغفران الذنوب بالصيام والقيام وسائر أنواع القُرَبِ والطاعاتِ لكفيلٌ باليقظة والاهتمام باستقباله وحفظ مقامه، والوقوف على أسباب التوفيق فيه.. وتلك أهم المطالب في هذه الأيام.

والناس على درب الاستقبال في اكتناز المكارم وفقدها أصنافٌ، فمنهم من يستقبله استقبالا لائقًا بحرمته، فيرعى منه العادة ويحولها إلى عبادة، ويستزيد في طلب الهدى بالتزام الفرائض، والحرص على النوافل، والفوز منه بسابغ البركات من تلاوة قرآن وقيام ليل، وصلة رحم وإطعام طعام وحضور علم واعتكاف وبذل صدقات، وغيرِها من كنوز الحسنات المعروضة في طيَّات ذا الشَّهر الكريم، ولا شك أن هذه الأصناف من القربات لا بد لها من استعداد وعُدَّة ومنهج وصحبة مُعينة على ارتياد هذه الآفاق من الخيرات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} (التوبة: من الآية 46)، ومنهم من تنكبته العراقيل والشواغل التي أفقدته المشاعر الحية المنشودة، والتي يجب أن تكون ملء القلوب هذه الأيام، ومن الناس من اقتفى سبل التقليد وسعى في رمضان كما يسعى ملايين البشر، في طقوس مبتورة تمامًا عن مقاصد التشريع في الصيام والقيام وسائر الفضائل والقربات، ويعطل عقله بمنعه عن مجرد التفكير في التغيير، لأنه يلفي نفسه على قوافي السلامة منذ أزمان، فعجلة الأيام به دائرةٌ منذ رؤية الهلال، وحتى صلاة العيد في آلية حركية لا يجد فيها أهل التقليد عوجا، وحالهم كهذا الذي له ساقيةٌ تأخذ الماء من النهر وترده إلى النهر بلا فائدة، ولما أبدى الناس له العجب، قال في إهمال فكر وجودة تقليد: «يكفيني من الساقية نعيرها»، فهذا هو حال شريحة كبيرة من المستقبلين للشهر الكريم يقنع نفسه بأنه على الصواب، وما أدراك ما حاله؟ إنه كمسلم يصبح يوم الجمعة فيسأل: ما اسم هذا اليوم؟ ولو كان يعرف ما الجمعة وفضلها وشرفها لاستقبلها بشوق منذ الأمس لأنه ينتظرها لسبع أيام خلتْ.

ضرورة الاستعداد

وكل شيء في الدين والدنيا ذو بال لا بد له من همة في الاستعداد، فحينما ألقى الله أمانة الكتاب على نبيه الكريم يحيى عليه السلام قال له: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: من الآية12)، فهذا استعداده.

وقضى القرآن العظيم وسنة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- بطائفةٍ من الاستعدادات حتى يتمكن المؤمنون من الفوز والفلاح في الصلاة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وَأنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّا غَفُورًا} (النساء: 43)، فهي إذن أحكامٌ هامةٌ قاضيةٌ، على كلِّ مصل أن يأخذ حِذْرَهُ من السُّكْر، وأن يتعلم أحكام الجنابة، وأحكام المرض والتيمم، ومن هذا الاستعداد للصلاة قَوْلُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى لا يقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقةً من غلول) (الألباني في صحيح الجامع 1855 بسند صحيح عن أسامة الهذلي والد أبي المليح  “رضي الله عنه” )، فالطهارة للصلاة من أهم واجبات الاستقبال لها، وتارك الطهارة مع التمكن منها لا تفتح له أبواب القبول، لأنه أساء استقبال صلاته.

فهذه سنةُ الكتاب العزيز في ضبط حال المسلم قبل العبادة، نجدها كذلك في أمر الزكاة، قال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام: من الآية 141)، فهذا استعدادٌ بالتذكر قبل حلول زمان الزكاة، ومن ذلك أيضًا أمر قضاء الحوائج قد انتخب له الشرع الاستعداد بالكتمان، فقد قال النبي الكريم  ” صلى الله عليه وسلم” : «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود» (الألباني في صحيح الجامع 943 بسند صحيح عن معاذ بن جبل وعمر بن الخطاب وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عن الجميع).

استعداداتٌ غير مُوَفَّقَة

لقد غدا شهر رمضان موسمًا ذا حراك دؤوب لأصحاب الحرفِ والصنائع الغذائية والاستهلاكية والترفيهية، وهذا يبين باختصار الحالة التي يكون عليها المسلمون في رمضان، بيد أنه لا يمكن لأحد أن يجزم من الذي تسبب أولًا وأرسى هذه الأعراف الاجتماعية، أَهُمُ التجار والحرفِيُّون وأصحاب المآرب في التكسب الذين أغروا المستهلكَ النَّهِمَ بكل ما يُعرضُ في الأسواق؟ أم هم الناس أفرادًا وجماعات دفعهم الاستحواذ على كل ما يرونه أو يسمعون عنه من باب التقليد أو الاكتشاف، أو الاستغراق في المباح، أم أنهما جميعًا قد تعاونا على إخراج هذه الصور الموغلة في التشاغل بالمأكول والمشروب والمُشاهَد ووسائل الترفيه؟ والظن كله يميل إلى تفاعل كل مع الآخر في الزهد عن الصراط المستقيم في رمضان، وإن كانت الصور تدعي – عبثًا – الالتزام، بَيْدَ أنَّهُ في الغالب مظهريٌّ إلا من رحم الله تعالى.

أما استعداد أهل الفن فأمرٌ عجابٌ، مهما قلبته على وجه عاقل فإنك لن تجد له مساغًا في دائرة القبول، فهو إذن ضربٌ من الجنون بجمع المتضادات الشرعية والعقلية والأخلاقية في قرن واحد، بين ادعاء التدين وخلط الأوراق من الإسراف والتميع الخلقي والاختلاط وضياع كنز العمر، واستدعاء من لا علاقة لهم بحرمة الشهر من قريب ولا بعيد وجعلهم نجومًا مسفرةً.. نعم.. ولكن بالجحيم الساري في أعطاف النفوس والعيون المتابعة للزوابع الطائشة في رمضان.

ودائمًا ما يشغلنا التفكير فيمن سيحمل هذه الأوزار التي تزيد كل عامٍ مع هذه القفزات الإعلامية المحطمة في ميدان القيم والأخلاق بشكل غير مسبوق، من سيحمل هذا الكفل من العذاب، وهداية العقول الحائرة دائمًا نلقاها في كتاب الله تعالى القائل عن هؤلاء وأمثالهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل: 25)، والقائد والقدوة غير المكرمة هو إبليس اللعين.

إن سفينة الحياة السائرة بلا توقف كل عام على غير تفكير رشيد وتوبة صادقة من الخائف على عمره من الضياع، وعلى نفسه من العذاب إنما هي سفينة الهلكى، فلماذا يرتادها زاعمو الهداية من قوافيها؟!. ومتى يتوقفون عن كذبهم الموهوم؟.. ولماذا تكون أنت – أخي الكريم – سببًا في زيادة أعداد السادرين في الغفلة معهم؟!.

وللنساء في شأن الاستعداد صور أخر، يختصرها حالهن الماثل قبل الهلال في الأسواق، يدرن الساعات الطوال عن مطالب الأبدان – وما في هذا عيبٌ ولا ذنبٌ –  ولكن الفاقرة تأتي من أن هذا الانشغال يجور حتمًا على حقوق القلوب من التربص المنشود بالتطهر، وترك الشواغل واكتناز التعلم وشحن الهمم، إنه نهر عطاء لا ينفد قد تركت الري منه بنت الإسلام قبل رمضان، واستعدت بناءً على قرارات الأبدان وأوامرها، بينما تظل الأرواح قاحلة من نسيم الإيمان الذي يرطب جفافها، ويذهب عنها ما يؤرقها في تزاحم مسئوليات الحياة الدنيا.

وجُلُّ الناس في الإعداد يجيدون فهم الصورة السابقة، قد هرعوا قرب القدوم إلى أبواب التجار يبغون المؤن، من سلع غذائية متكاثرة لا يعلم منتهاها إلا الله، تقصم فقار الظهر في أثمانها، وتتنافى مع فلسفة الشهر الكريم في التقشف، وقد برع أهل الصنائع في الطعام في صنع ألوانٍ تصيب الجيوب بالنزيف والأبدان بالثقل والنفوس بالبطر والثقل بعد الشبع إِثْرَ تدليل النفس بإجابة كل خواطرها في جانب الشهوات.. فأين الفائدة من تأديب النفوس بالصيام.. ومن يفهم؟

المطلوب استعداد القلوب

لا تجعل كل همك في قضية الاستعداد أن تتخم بطنك بما يغمرها ويطمرها، ولا أن تقنع نفسك بالمنى بأنك أديت ما عليك مثل كل الناس، فإن هذه – لا شك – أفكار المفاليس، فالناس في هيامهم بالهوى والدنيا والشهوات على ضروب الهلاك، وكل ما هو مطلوب اليوم – أخي الكريم – هو تميزٌ عن الناس بوقفة صدق مع الله والنفس باستنفار جواهر المعاني الكريمة التي تبيض الوجه مع ربنا واهب النعم، ومحاولة إحياء القلوب بعد مواتها، فإن معاناة قلوب الموحدين هذه الأيام لها جوارٌ وصدى.. يفلق الأكباد إن سمعناهُ.

ضيفكم الكريم – يا أهل الكرم –  سيطرق آخر طرقاته على أبواب القلوب بعد أيام، والجواب المُنتظَرُ لن يكون إلا بنياطها وشآبيبها، بفرح القدوم للضيف الذي طال انتظاره، كما كان السلف الصالح يستقبلون رمضان بستة أشهر، يدعون الله أن يبلغهم رمضان ثم يودعونه بستة أشهر، يدعون الله أن يتقبل منهم، وعلى ذلك فالسنة كلها كانت إلهامًا ودرسًا وعبرةً ومعايشةً لبركات رمضان.

فيا أيها المسلم انهض، وأسقط متاع الغرور الآن من على ظهرك، وافتح للضيف القادم كل أذرعة الوداد المُسْتَكِنَّة في قلبك، فإن الخوف المحذور قادمٌ – إن أهملت –  وسيهولك المشهد العام يوم القيامة من فرط العجب الذي سيملك نياط القلب حين تُبلى السرائر، لترى أن أقوامًا خرجوا من رمضان وهم على رؤوس القمم، لأنهم كانوا ممن يحسنون استقبال الضيوف، وأقوامًا أُخَر ما زالوا يتسكعون على سفوح البطالة، لأنهم سمعوا الأبواب المطروقة، ولم تنهض بهم هِمَّةٌ ولم تَرْقَ لهم عزيمة.

_____

المصدر: الوعي الشبابي.

[ica_orginalurl]

Similar Posts