عصمة الأنبياء بين الإسلام والمسيحية

في الإسلام، جميع الأنبياء والمرسلين بمن فيهم يسوع (عيسى) ومحمد معصومون من كبائر الذنوب

كثيرًا ما تثار قضية عصمة الأنبياء في المسيحية والإسلام، فلا يؤمن المسيحيون بعصمةٍ للأنبياء أصلاً بخلاف عصمة السيد المسيح، أما المسلمون فينتصر البعض لعصمتهم المطلقة، بينما ينتصر البعض الآخر لعصمة مقيدة غير مطلقة، وحتى هؤلاء يختلفون في حدود هذه العصمة المقيدة بين مفرِط ومفرِّط ومعتدل. فهل الأنبياء كالملائكة في عصمتهم أم هم أناس عاديون مثلنا أم ماذا؟ وما هو موقف المسيحية والإسلام من هذه العصمة؟

عصمة الأنبياء في الإسلام

إن الأنبياء في الإسلام وإن كانوا بشرًا إلا أنهم أناس في أعلى درجات الرقي البشري والكمال الإنساني. وإن طبيعتهم وإن كانت طبيعة بشرية أرضية طينية يطالها الخلل والذلل إلا أنها في أرفع مستويات السمو الروحي والنقاوة المعنوية. وإن سموهم الروحي هذا يجعلهم أكثر تعلقا بالملأ الأعلى وملكوت السماوات مما يجعلهم أقل عرضة لما يعتري آحاد البشر عادة من الخلل والذلل.

يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ (البقرة 213:2)

كما يقول تعالى:

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (آل عمران 164:3)

ومع ذلك، فقد يصدر عن الأنبياء الخطأ الذي هو لفظ عام يندرج تحته ترك الأوْلَى واللبس والسهو بل والذنب أيضًا. فكل هذه الأمور من الأعراض البشرية التي تطرأ على الأنبياء كونهم بشرًا خلقوا من طين لازب.

ومع ذلك، ليس كل الخطأ الذي هو بمعنى الخطيئة؛ جائزا في حق الأنبياء والمرسلين لأن من الخطيئة ما يحول دون ما يعايشه الأنبياء والمرسلون من المعية الإلهية والحضرة الربانية، فالأنبياء في حالة معية دائمة مع الذات الإلهية، ولا يليق بمن كان كذلك ارتكاب الكبائر والفواحش والموبقات وذلك بكل بساطة لأن الله تعالى لا يسمح لهم بالشروع في مثل هذه الآثام ابتداءً ولا يمكنهم من إتمامها انتهاءً.

فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف:

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ(يوسف 53:12)

كما يقول تعالى عن يوسف -عليه السلام- أيضًا:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف 24:12)

فإنك إذا استشعرت أن الله جل جلاله معك في كل حركاتك وسكناتك وفي معاشك وسباتك وفي قيامك وجلوسك وفي انتباهك ومنامك، فلا يتأتى منك كبيرة ولا فاحشة، لاسيما إن كنت من أولياء الله تعالى وخاصته، وذلك ببساطة لأن أسباب الكبائر والموبقات في حق الأنبياء تكاد تكون منقطعة أصلا، فليس للشيطان عليهم سبيلا، وليس لأنفسهم عليهم سلطان إلا بإذن الله. ومن ثم، فالمجال لا يتسع كثيرا لنفس تُسولُ ولا لشيطان يوسوس؛ حتى يرتكب النبي أو الرسول كبيرة ولا فاحشة، لاسيما وقد علمنا أن الله قد اختصه بالهداية إليه وإصلاح نفسه بين يديه تعالى لهداية البشر إليه، فكيف تتأتى الهداية من زائغٍ ضال غير مهتد؟ ففاقد الشيء لا يعطيه!

ومع ذلك، فما زال الخطأ اليسير والذنب الصغير؛ واردا وجائزا في حق الأنبياء والمرسلين. وما زالت طبيعتهم الأصلية خاطئة بمعنى قابلة للخطأ كبشر، بخلاف الملائكة المجبولين والمفطورين على الطاعة والذين لا يستطيعون إلى المعصية سبيلاً ولا يعرفون لها طريقًا.

فإن الذنب والذلل وإن كان ممقوتا عند الله عز وجل، إلا أن التوبة منه والإنابة إلى الله تعالى لمغفرته حبيبة إلى الرحمن ولولا ذلك ما خلق البشر، فهو يريد مخلوقا طائعا باختياره وليس رغما عنه، والمعصية والذلل عرض جانبي يغفره الله تعالى متى وقعت التوبة الصادقة منه حتى وإن تكرر الذنب. ويمنح الله تعالى العبد الفرصة تلو الفرصة للرجوع له والإنابة إليه لأن الطاعة مع القدرة على المعصية أعز وأغلى عند الله تعالى من الطاعة مع عدم القدرة على المعصية.

فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه سلم: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم”. (رواه مسلم)

وإن المعصية وإن كانت شرا إلا أنها قد تفضي إلى الخير، فكثيرا ما تُورث في النفس انكسارا وذلاً وتواضعًا لله عز وجل اعترافا بالذنب وإقرارا بالتقصير وعرفانًا بالمغفرة، وما كان ذلك الشعور ليتأتى من نفس لا تخطيء ولا تعرف الذنب ولا الإثم.

ولما كان الأمر كذلك، أراد الله التوبة والأوبة والندم من جميع خلقه تعالى، لا فرق في ذلك بين محسنهم ومسيئهم وبرهم وفاجرهم ومطيعهم وعاصيهم، فكلهم في ذلك سواء عند الله. ومن ثم، فالتوبة والأوبة إلى الله تعالى مطلوبة حتى من الأنبياء والمرسلين كونهم من البشر.

وعن ذلك يقول الله تعالى:

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (النمل 27 :10-11)

وعلى ما سبق يُحمل ما ورد في الكتاب والسنة من ارتكاب بعض الأنبياء والمرسلين لبعض الصغائر التي لم تؤثر على مجريات رسالتهم أو متطلبات بلاغهم.

وعليه، ففي الإسلام اعتقاد سائغ بعصمة منطقية للأنبياء، فهي ليست مطلقة تجعل منهم ملائكة يمشون على الأرض بما يخالف طبيعتهم البشرية، كما أن فسوق الأنبياء وفجورهم وعدم عصمتهم ليس من الإسلام في شيء، فكيف لمن هو في ضلال مبين أن يهدي الناس إلى رب العالمين؟

عصمة الأنبياء في المسيحية

على الرغم من اعتراف المسيحية بمقام النبوة والإقرار بفضل الأنبياء والمرسلين في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، إلا أن الكتاب المقدس يعج بأفاعيل جسيمة وأباطيل كثيرة لا تليق ليس بالأنبياء فحسب، وإنما لا تليق بأي إنسان شريف عفيف من آحاد الناس.

فعلى سبيل المثال، يظهر الكتاب المقدس نبي الله نوح بمظهر شارب الخمر الذي يسكر ويتعرى، فنحن نقرأ: “وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ”. (التكوين 9 :20-21)

ويصور الكتاب المقدس نبي الله لوط في صورة الشيخ العاصي الذي يشرب الخمر ويسكر ويزني ببناته وينجب منهم أبناء زنى، فنحن نقرأ: وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ، وَابْنَتَاهُ مَعَهُ، لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ. وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أَيْضًا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا، فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. (التكوين 19 :30-36)

ويرمي الكتاب المقدس نبي الله داود بالزنا، فنحن نقرأ: فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى». (2 صمويل 3:11-5)

والأمثلة في الكتاب المقدس على ارتكاب الأنبياء منكرات وموبقات أكثر من أن يتسع لحصرها المجال. ولكن علينا أن نبحث السر وراء تصوير الأنبياء بهذه الصورة المخزية في الكتاب المقدس، ولنا أن نسأل أنفسنا، إذا كان الأنبياء كذلك، فكيف يهدون الناس إلى رب الناس، فهؤلاء الأنبياء حسب الكتاب المقدس بحاجة إلى من يهديهم؟

ولنا أن نقول أن الفساد الذي يشوب مفهوم عصمة الأنبياء في المسيحية، راجع إلى اعتقاد أكثر فسادًا وبطلانًا وأكثر مدعاة لليأس والقنوط وهو الإيمان بتلوث الجنس البشري بالخطيئة وتعذر تطهره منها، فلم يسلم من هذه الخطيئة أحد من البشر وفقًا للمعتقد المسيحي المعاصر سوى السيد المسيح، ليس لأنه بشر معصوم مثلا ولكن لأنه نصف إله أو تحديدًا ثلث إله. وحيث إن الجنس البشري جنس ملوث ميؤوس من طهارته، كان الحل في المسيحية المعاصرة أن يقتل البشر السيد المسيح حتى يتحمل عنهم تلوثهم وحتى يتحقق الخلاص للبشر من الخطيئة. ولكن كيف تؤدي خطيئة القتل إلى مغفرة أية خطيئة؟ فهل تؤدي ذروة الخطيئة وهي القتل إلى العقوبة أم المغفرة؟

ولما كان الأمر كذلك، لم يكن من الغريب أن نجد الكتاب المقدس ينسب إلى أنبياء الله ورسله؛ ارتكاب الكبائر والفواحش والمنكرات. ولا شك أن هذا المعتقد ظاهر البطلان لفساد مفهوم النبوة لديه، فالأنبياء والمرسلون هم أناس يهديهم الله ويجتبيهم حتى يهدي بهم الناس إليه، ولولا إرسال الأنبياء والمرسلين إلى الناس وهداية بعضهم إلى الله، لحَقَّ على الناس العذاب ولآلت الدنيا إلى زوال.

فمن المعلوم أن استمرار بقاء الدنيا مرهون بعبادة الله فيها، ولو انقطعت عبادته فيها لنزل العذاب بها ولو بعد حين. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء 76:17)

فمفهوم الآية القرآنية السابقة أن تكذيب الناس للنبي محمد وكفرهم برسالة السماء التي حملها إليهم كان سيؤدي بالضرورة إلى هلاكهم وعذابهم وتلك سنة الله في جميع الأمم السابقة، فلقد كان الله يهلك الأمم السابقة التي تكذب أنبياءها.

وهكذا، لو كان الأنبياء والمرسلون كما ورد وصفهم بالكتاب المقدس، لانتفت عنهم الهداية ولتعذرت هداية الناس على أيديهم ولحَق عليهم العذاب ولآلت الأرض إلى الزوال. أما أنها وقد بقيت إلى الآن، فهذا دليل على استمرارية الخيرية والإيمان فيها، واهتداء الأنبياء والمرسلين واستقامتهم وهداية الناس على أيديهم إلى الله تعالى.

وإن الإيمان بالخلاص بدم السيد المسيح من الخطيئة اعتقاد ظاهر البطلان والفساد، لأنه إذا تلوث أهل الأرض بالخطيئة وتعذر تطهيرهم منها، فلا خير فيهم ولا جدوى من فدائهم بدم السيد المسيح ولا بغيره لأن هذا الفداء لا يغير من طبيعتهم الملوثة ولا يحصل به تطهير، فكيف يحصل لهم خلاص وهم مقيمون على ما هم فيه من الخطيئة والإثم؟ فلا يَجدّ جديد بقتل السيد المسيح المزعوم سوى إزهاق نفس بريئة وسفك دمها بغير حق، أي إضافة جريمة إلى جرائم بني البشر.

_________

المراجع:

1- القرآن الكريم

2- صحيح مسلم

3- الكتاب المقدس

 

اقرأ أيضا:

عصمة الأنبياء بين الإسلام والمسيحية (2/2)

[ica_orginalurl]

Similar Posts