يعتبر تاريخ الدول الإسلامية والممالك التي قامت في قارة إفريقيا من الأمور المجهولة بالنسبة للمسلمين، فهم لا يعرفون عن مسلمي إفريقيا شيئا، مع العلم أن نسبة

عثمان دان فوديو

أعاد للدعوة الإسلامية مجدها في القلب الأفريقي

المسلمين في قارة إفريقيا هي الأعلى في قارات العالم، على الرغم من أن القارئ لأحداث وتاريخ هذه الممالك والدول، سيقف معجباً وربما منبهراً بالبطولات العظيمة التي قام بها أبطال إفريقيا العظام، خاصة أولئك الذين كانوا في الغرب الإفريقي، وتصدوا لأعنف وأشرس الحملات الوحشية التي قادها صليبيو إسبانيا والبرتغال وفرنسا وأمريكا.

لقد قامت بإفريقيا السوداء الكثير من الممالك الإسلامية العظيمة على شريعة الإسلام من الكتاب والسنة، بل وعلى منهج السلف فهماً وتطبيقاً، وصاحبنا واحد من أعظم الرجال الأفارقة الذين أدخلوا الدعوة السلفية إلى إفريقيا، وأقاموا دولة عظيمة وكبيرة على منهج السلف الصالح والعجيب أنه لا يعرفه أحد من عامة المسلمين، بل ومن المتخصصين في قراءة التاريخ أيضاً.

ومن فرع قبائل الفولانيين الذين هاجروا إلى نيجيريا ظهر الأمير الفولاني (عثمان دان فوديو) الذي أعاد المجد والعزة للإسلام بقلب إفريقيا.

النشأة والتكوين

ولد (عثمان دان فوديو) في بلدة “طقِل” Degel على أطراف إقليم “جوبير” Gobir شمال نيجيريا، سنة 1169هـ الموافق 1754م، وكلمة فودي تعني الفقيه واسمه الأصلي (محمد).

وينتسب “عثمان” إلى قبيلة الفولاني العريقة في الإسلام، وفي هذه البلدة الصغيرة، وفي هذا الجو الديني نشأ، وكان والده معلم القرآن والحديث في قريته فدرس اللغة العربية وقرأ القرآن وحفظ متون الأحاديث، وقد ساعده والده على تنمية ملكة التعمق في العلوم الدينية لما رأى فيه من حبه للدين وخدمته.

فدرس الألفية لابن مالك في النحو، والمختصر في الفقه المالكي للخليل بن إسحاق المصري، وحصل على الإجازة في القرآن الكريم، وكتب الصحاح الستة، وفقه المذاهب الأربعة، والشمائل للترمذي، والموطأ للإمام مالك، والجامع الصغير للسيوطي، وكتاب الشفا للقاضي عياض، وسمع تفسير القرآن من أوله إلى آخره.

نشأ في أسرة متدينة ومثقفة بثقافة علمية عالية، وقد كان بين مشايخه من الآباء والأجداد والأعمام منذ صغره مشتغلا بالدعوة إلى الله تعالى، عفيفا متدينا، ذا خلال مرضية، نسيج وحده، حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة، كثير الحياء والشفقة على الخلق، متواضعا، طلق الوجه، حليما رحيما بالمؤمنين.

كان لهذه التربية وهذا الجو الإيماني الذي نشأ فيه أثر بالغ في تكوين شخصيته وتوجهاته، فشب ورعاً تقياً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مجتنباً لما اعتاد عليه قومه من أساليب في الحياة، شديد الكره والعداء للقبائل الوثنية في إقليم “جوبير” الذي ولد فيه، لذلك قرر مرافقة أبيه في رحلته الطويلة إلى الحج وهو في سن الشباب.

نقطة التحول الكبرى

لقد كان ذهاب عثمان دان فوديو لأداء مناسك الحج مع أبيه، نقطة تحول كبرى في حياة البطل الهمام، ذلك أنه قدم مكة المكرمة، والدعوة السلفية للشيخ محمد بن عبدالوهاب في أوج قوتها وانتشارها، حيث كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب ما زال حياً يعلم الناس التوحيد الخالص ويحارب البدع ويرد على المبتدعة وأصحاب الأهواء، فلما وصل عثمان دان فوديو هناك التقى مع المشايخ والدعاة السلفيين وسمع منهم الدعوة السلفية وأسلوب الحركة وكيف قامت؟ وكيف انطلقت من منطقة الدرعية لتشمل الجزيرة كلها، وحضر مجالس العلم للشيخ محمد بن عبدالوهاب.

قرر “عثمان” البقاء لفترة بمكة للاستزادة من الدعوة السلفية وعلومها ومناهجها، وتأثر بها بشدة، ذلك لأن بلاده كانت مليئة بالبدع والخرافات، امتزج فيها الإسلام بالعادات الوثنية، وكانت العادات القبلية تحكم حياة المسلمين، بل هو نفسه كان يتدين بكثير من البدع والأوراد غير الصحيحة، والسبب في ذلك أن الإسلام انتشر في هذه المناطق بنشاط دعاة الطرق الصوفية، وأصبح معنى التدين مرادفاً لمعنى التصوف، لذلك قرر المكوث لتصحيح مسار حياته وعباداته.

نستطيع القول بأن ذهابه إلى الحج والتقاءه مع دعاة وعلماء الحركة السلفية، وتلقيه لمبادئ وأسلوب هذه الحركة يعد نقطة تحول كبرى في حياة هذا الرجل، ولعل هذا من رحمة الله عز وجل بالأمة المسلمة بإفريقيا، ونصرة عظيمة للإسلام والمسلمين لما سيقوم به هذا الرجل من جهود كبيرة لخدمة الدين والأمة .

جهاد الدعوة

عاد عثمان دان فوديو إلى بلاده في إقليم “جوبير” وفي نيته نشر الدعوة السلفية ومحاربة البدع المتفشية هنالك والتمهيد لنقل التجربة السلفية والتي سبق أن نجحت في جزيرة العرب إلى بلاده في إفريقيا، فأخذ في دعوة أهله وإخوانه إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع والشركيات ومحاربة الطرق الصوفية، فاستجاب لدعوته كثير من أبناء قريته “طفل”، فأسس حركة دعوية على منهج السلف وأطلق عليها اسم (الجماعة).

أخذت الدعوة السلفية وحركتها المسماة بالجماعة تنتشر بين القبائل الإفريقية، ودخل فيها أفراد من عدة إمارات ومن شعوب عدة، منها الهاوسا، والطوارق، والزنوج، إضافة إلى قبيلته الأصلية “الفولاني” التي كانت من أكثر القبائل انضماماً لدعوته وحركته.

حققت الدعوة نجاحاً كبيراً في نشر الإسلام بين القبائل الوثنية المنتشرة في شمال وجنوب نيجيريا، ويوما بعد يوم ازدادت جماعته قوة ونجاحاً واتساعاً وأصبح الصدام وشيك مع قوى الشر والضلال.

منهجه الدعوي

كان للشيخ مجلسان: أحدهما للتدريس والآخر للوعظ والإرشاد:

1- مجلس التدريس: يقوم فيه بتفسير القرآن الكريم وبثّ علوم الحديث الشريف والفقه والتصوف وغيرها، وذلك يوميا بعد صلاتي العصر والعشاء.

2- مجلس الوعظ والإرشاد: يخرج له ليلة كل جمعة، أو في بعض الليالي، وكان يحضره جمع غفير رجالا ونساء، وكثيرا ما يخرج إلى القرى القريبة والبلدان المجاورة ويمكث فيها أياما أو شهورا ثم يرجع إلى قريته (طَقِل).

وكان قبل خروجه يقف في زاوية من داره ليجدّد النية ويعاهد الله تعالى على الإخلاص فيما يخرج إليه، ويسأله تعالى أن يفهم الحاضرين ما يحدّثهم به، وإذا وصل المجلس سلم بسلام عام يسمعه جميع الحاضرين، وإذا جلس على كرسيه حياهم بتحية عامة ثلاث مرات، ببشاشة وطلاقة وجه ثم ينصت الناس.

وكان لا يضجر ولا يسأم من سامعيه، مع أنّ كثيرا منهم من العوام، وكان كلامه في مجالسه العلمية يدور حول: أصول الدين من أركان الإيمان، والفقه في أركان الإسلام، والتصوف والعبادات القلبية وحفظ الأعضاء من المعاصي، والحثّ على اتباع السنة واجتناب البدعة، والرد على أوهام غلاة الصوفية، وبث العلوم الشرعية.

الصراع الأبدي

إن من سنن الله عز وجل الماضية في خلقه، سنة التدافع بين الحق والباطل، وهي سنة أبدية من بدء الخليقة إلى قيام الساعة، فأتباع الحق يصارعون أتباع الباطل، هذا يدفع هذا، وهذا يتصدى لهذا، وعملاً بهذه السنة الماضية، فلقد ضاق أمراء إقليم “جوبير” وكانوا من الوثنيين من نشاط جماعة عثمان دان فوديو، كما ضاق أصحاب الطرق الصوفية منها وخاصة بعد انصراف الكثير من مريديها إلى الجماعة السلفية، واتفق الفريقان من غير موعد على عداوة الحركة الجديدة، ولكن اختلفت المواجهة، ففي حين اتبعت الطرق الصوفية طريقة التشنيع والكذب والتضليل، قرر أمراء الإقليم الوثنيون اتباع أسلوب المواجهة المسلحة.

أرسل هؤلاء الأمراء يتهددون الجماعة السلفية، ويتوعدون زعيمها بأشد أنواع الوعيد والتهديد، عندها اجتمع المجاهد العظيم مع رفاقه واستشارهم في كيفية مواجهة هذه التهديدات، فأشار الجميع وهو أولهم بوجوب إعلان الجهاد على الوثنيين وذلك في سنة 1804م  1218هـ.

بمجرد إعلان عثمان دان فوديو الجهاد أتاه المسلمون من كل مكان في شمال نيجيريا يبغون نصرة إخوانهم ضد الكفار، فلقد كان لإعلان الجهاد مفعول السحر في نفوس المسلمين، إذ عادت لهم الحمية والحماسة لدينهم، وفى نفس الوقت جاءت مساعدات كبيرة لأمراء “جوبير” من باقي إمارات الهاوسا غرب نيجيريا، واستعدت المنطقة بأسرها لفصل جديد من فصول الصراع بين الإسلام والكفر، انتهى بفضل الله لصالح الجماعة المؤمنة، وانتصرت الدعوة السلفية على الجماعات الوثنية، وأصبح عثمان دان فوديو أميراً على المنطقة الواقعة في شمال غرب نيجيريا، وبايعه المسلمون هناك أميراً عليهم، ولقب من يومها بالشيخ اقتداءً وتأسياً بالشيخ محمد بن عبدالوهاب، واتخذ من مدينة “سوكوتو” في أقصى الطرف الشمالي الغربي لنيجيريا مركزا لدعوته وذلك سنة 1809م 1223هـ.

بناء الدولة الإسلامية

لم يكن الشيخ عثمان من الرجال الذين يبحثون عن زعامة أو إمارة، وبمجرد حصوله عليها يكف عن سعيه وجهاده ويجلس للتنعم بما حازه وناله، بل كان يبغي نصرة الإسلام ونشره بين القبائل الوثنية، يبغي الدعوة لهذا الدين في شتى أرجاء القارة السوداء.

لذلك قرر العمل على إعادة بناء الدولة الإسلامية من جديد، وتوسيع رقعة الإسلام بالجهاد ضد القبائل الوثنية التي اجتمعت على حرب الإسلام ودعوته الجديدة.

قرر الشيخ عثمان اتباع إستراتيجية الجهاد على عدة محاور، وضم الشعوب الإسلامية تحت رايته، فضم إليه عدة شعوب وقبائل مسلمة كانت متناثرة ومختلفة فيما بينها، وبدأ بالتوسع في ناحيتي الغرب والجنوب الغربي، حيث قبائل “اليورومبا” الكبيرة، والتي هي أصل الشعوب الساكنة في النيجر ونيجيريا، فدانت له هذه القبائل ودخلت في دعوته، وأخذت الدولة الإسلامية في الاتساع شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت أقوى مملكة إسلامية في إفريقيا وقتها.

سياسة بناء الكوادر

لقد كان عثمان دان فوديو رجل دولة من الطراز الأول، وداعية مجاهداً مخلصاً لدينه وأمته، ولقد أدرك أن بقاء الدعوة السلفية والدولة الإسلامية التي بناها في غرب إفريقيا لن يصمد طويلاً إذا لم تتحرك هذه الدعوة لنشر مبادئ السلفية بين الناس، وإذا لم تتسع وتتمدد هذه الدولة التي بناها بجهاده سنين طويلة.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي اتبع الشيخ عثمان سياسة حكيمة تقوم على بناء الكوادر التي تواصل حمل الراية ونشر الدعوة، وكان له عين فاحصة تستطيع انتقاء النجباء والأبطال وحملة الدعوة، خاصة أن فتوحاته التي قام بها في غرب نيجيريا حركت الحماسة والحمية للإسلام في قلوب الكثيرين، ومن هؤلاء انتقى رحمه الله ثلاثة نفر كان لهم أعظم الأثر والدور الكبير في خدمة الإسلام والمسلمين.

أولهم الشيخ [آدم] وهو شيخ من أهل العلم من الكاميرون، حركت فتوحات الشيخ عثمان حب الجهاد في قلبه، وبدأ يدعو الناس إليه وإلى نشر الإسلام في القبائل الوثنية، فلما وصلت أخباره للأمير عثمان أرسل يستدعيه من الكاميرون سنة 1811م 1226هـ، فلما حضر جلس معه وكلمه عن مبادئ الحركة وعقيدة السلف، وأقنعه بوجوب الجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام في قلب القارة الإفريقية، فلما انشرح صدر الشيخ آدم للفكرة، أعطاه الشيخ عثمان رايته البيضاء وهي رايته في الجهاد، وكلفه بمواصلة الجهاد حتى ينشر الإسلام فيما يلى نهر البنوى جنوباً وهو فرع كبير من فروع نهر النيجر العظيم، فقام الشيخ آدم بالمهمة على أكمل وجه، حتى أدخل بلاد الكاميرون كلها في الإسلام، وكافأه الأمير عثمان بأن جعله أميراً على الكاميرون، وظلت الإمارة فيهم حتى احتلال الإنجليز للكاميرون سنة 1901م 1319هـ.

أما الرجل الثاني فكان أحد جنود الشيخ عثمان واسمه [حمادو بارى] وقد اشترك في معركة الجهاد الأول ضد أمراء “جوبير” الوثنيين، وبتواصل الجهاد ظهرت شجاعته ونباهته وإخلاصه لنشر الدين، فكلفه الشيخ عثمان بفتح بلاد الماسنيا (تقع في مالي الآن)، ونجح حمادو في مهمته خير نجاح، فكافأه عثمان بأن أعطاه لقب [الشيخ] وجعله أميراً على منطقة الماسنيا، وأمره بمواصلة الجهاد لنشر الإسلام، ولقد أثبت الأمير حمادو أنه من أنجب وأفضل تلاميذ الإمام عثمان دان فوديو، فلقد نظم دولته على نسق دولة الخلافة الراشدة، حيث قسمها إلى عدة ولايات، وأقام على كل ولاية والياً وقاضياً ومجلساً للحكم، كهيئة استشارية للحكم الإسلامي على الكتاب والسنة، وعمر البلاد فازدهرت دولته بقوة ووصلت إلى بوركينافاسو وسيراليون وغينيا بيساو.

أما الرجل الثالث فكان [الحاج عمر] وأصله من قبائل الفولاني عشيرة عثمان دان فوديو، ولد سنة 1797هـ، أي أنه كان في أوائل شبابه، والشيخ عثمان في أواخر حياته، ولكن هذا الشاب قُدر له أن يجتمع مع الإمام، وذلك أن الحاج عمر كان محباً للدعوة والجهاد، فلما اشتد عوده قرر الرحيل إلى بلد الشيخ عثمان ليراه ويسمع منه، وبالفعل ذهب إليه ورآه الإمام عثمان فتفرس فيه النجابة والفطنة والشجاعة، فنصحه بأن يذهب إلى الشيخ حمادو بارى ويلتحق بخدمته، لعله أن يكون خليفته بعد رحيله في قيادة المملكة الإسلامية هناك، وبالفعل نجح الحاج عمر أن يلتحق بخدمة الشيخ حمادو ويخلفه بعد رحيله، وقاد القبائل الإسلامية قيادة عظيمة وكان جيشه يقدر بأربعين ألف مقاتل، وحارب الوثنيين والفرنسيين على حد سواء، وتولى أولاده من بعده قيادة المسلمين في هذه المنطقة التي ابتليت بأشرس هجمة صليبية في تاريخ البشرية.

وبالجملة فقد نجح الإمام المجاهد عثمان دان فوديو، وأعظم أمراء إفريقيا في بناء قاعدة عريضة من المجاهدين والقادة والأمراء الذين قادوا الأمة المسلمة في قلب إفريقيا، وأقاموا أعظم الممالك الإسلامية في هذه البقعة الغامضة عن ذهن أبناء المسلمين.

وفاته

توفي الشيخ عثمان سنة 1818م = 1233هـ وعمره (63) سنة، إثر مرض استمر به سنة، بعد أن أعاد للإسلام مجده، وأدخل الدعوة السلفية المباركة إلى القلب الإفريقي، وأبقى للإسلام دولة قوية ظاهرة صامدة أمام هجمات الأعداء، حتى بعد وقوعها فريسة للاحتلال الصليبي، بقيت القلوب حية مجاهدة، تقاوم الأعداء وتحافظ على دينها وعزتها، فجزى الله هذا الإمام على ما قدمه للإسلام في إفريقيا، ورفع درجاته في عليين مع المهديين.

ــــــــــــــــــ

* تمت الاستفادة من:

1- موقع مفكرة الإسلام.

2- ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

———

المصدر: موقع إسلاميات.

[ica_orginalurl]

Similar Posts