ريتشارد دوكنز

ظروف الإنسان التطورية متباينة أشد التباين وهو الأمر الذي لا يستطيع دوكنز إدراكه

ذكرنا في الجزء الأول أن بعض الملاحدة يتمسكون بالقيم الفاضلة التي يتمسك بها المتدينون، وفسرنا ذلك التشابه بالفطرة وبالعرف المستمد من الدين. أما ريتشارد دوكنز فيُرجع هذا التشابه إلى أن الإنسان جنس واحد يخضع لنفس الظروف التطورية، وهذا خطأ علمي كبير، فظروف الإنسان التطورية متباينة أشد التباين.

الإناء بما فيه

     وبالرغم من بعض “التشابه الأخلاقي الظاهري” بين الملاحدة والمتدينين، فإن هناك تبايناً عميقاً في المنظومة الأخلاقية لكل منهما، حتى إن دوكنز نفسه يقر بأن كونا يتربع على عرشه إله يختلف تماماً عن كون ليس به إله!. ويقف وراء هذا التباين الأخلاقي العميق نظرة كل منهما للذات الإنسانية، فلا شك أن التوابع الأخلاقية لمنظومة تعتبر الإنسان حيواناً ليس إلا، تختلف جذرياً عن منظومة تعتبره خليفة من الله في الأرض وأنه خُلق على صورة الإله. فلنتأمل بعض الانعكاسات الأخلاقية لهذا التباين:

الإجهاض

جنين

يتبنى دوكنز فكرة أنه لا ينبغي أن ننظر إلى الجنين البشري كإنسان! بل كتجمع من الخلايا، المهم أن نعرف في أي مرحلة يبدأ الجنين في الإحساس والمعاناة، حتى نعرف ما يعانيه إذا تم إجهاضه

ترفض الديانات السماوية الإجهاض باعتباره قتلاً للنفس التي حرم الله قتلها، وإذا كان دوكنز يتفق مع الديانات في تحريم القتل، فإنه يمزق هذه القاعدة بسهولة إذا جاء إلى الإجهاض.

فدوكنز يتبنى أنه لا ينبغي أن ننظر إلى الجنين البشري كإنسان! بل كتجمع من الخلايا، المهم أن نعرف في أي مرحلة يبدأ الجنين في الإحساس والمعاناة، حتى نعرف ما يعانيه إذا تم إجهاضه. ويعقد دوكنز مقارنة توضح موقفه فيقول :”إن حيواناً بالغاً يعاني من الألم أكثر مما يعانيه جنين إنسان داخل الرحم أو طفل مولود حديثاً، كذلك ليس هناك سبب أخلاقي للحرص على الإنسان بشكل خاص، فمن يعاني أكثر هو الأهم”. أي أن الإنسان ينبغي ألا يُفضَّل على الحيوان البالغ.

ويثني دوكنز على آراء الفيلسوف التطوري الملحد بيتر سنجر Peter Singer، الذي يتبنى فكرة أن المنظور الأخلاقي يحتم المعاملة المتماثلة لجميع الأجناس ذات القدرات المخية المتطورة، أي أن الإنسان ينبغي معاملته مثل باقي الحيوانات.

من ذلك نرى أن المنطلقات الفكرية الأخلاقية لدوكنز لا تقف عند تطورية دارون، بل تشمل مذهب المنفعة لجون ستيوارت مل، الذي يؤكد أن مذهبه تجديد للمدرسة القديمة التي ترى أن الأخلاق لا تنطلق من مفاهيم إنسانية مشتركة، لكن من قدرتها على زيادة المتعة واللذة وتقليل الألم.

قتل الرحمة

قتل الرحمة

يتحمس دوكنز لما يُعرف بـ” قتل الرحمة Euthanasia” الذي ترفضه الديانات السماوية

من نفس منطلقات إباحة الإجهاض، يتحمس دوكنز لما يُعرف بـ” قتل الرحمة Euthanasia”  الذي ترفضه الديانات السماوية. فيرى أنه من المقبول أخلاقياً أن يتخذ الإنسان قراراً بإنهاء حياته للتخلص من المعاناة. والمشكلة الأكبر أن ذلك يؤدي إلى الموافقة على اتخاذ الأقارب قرارات بإنهاء حياة الآخرين من المسنين والمرضى والأطفال المعاقين، وهذا ما حدث بالفعل في قانون صدر في نيوزيلاندا New Zealand.

أكل لحوم البشر

من وجهة النظر التطورية، لا يوجد مبرر يمنع أكل لحوم البشر Cannibalism! فالتطور لا يعرف الصواب والخطأ في المفاهيم الأخلاقية، ولكنه قد يفسر نشأتها. كذلك فإن قيم الحرية واللطف لا تمنع الاستفادة من لحم الإنسان في جميع الأغراض، خاصة أن أكل لحوم البشر يحل الكثير من مشكلات نقص الغذاء في المجتمعات الفقيرة، ويحل كذلك مشكلات التخلص من الجثامين!. ويُرجع دوكنز عزوف الأسود عن أن تأكل بعضها بعضاً إلى أن ذلك لن يكون مفيداً تطورياً، بل يمكن أن يهدد بقاء الجنس إذا تبنت كل الأسود نفس السلوك. ونحن ندفع هذا المنطق بأن هناك فائدة محققة إذا أكلت الأسود جثث بني جنسها، وليس أقرانها الأحياء لكن ذلك لا يحدث! كذلك إذا كان أكل لحوم البشر من نفس المجموعة البشرية ضار تطورياً فإنه بلا شك مفيد بالنسبة للحوم الأعداء!

تشابهت الأسماء واختلفت المسميات

تناقض

يتضح أن التشابه الخُلُقي بين المتدينين والملاحدة هو تشابه لفظي في المقام الأول، أما من الناحية الفعلية فهما مختلفان تماماً وربما متضادان، ولا شك أن ذلك أمر طبيعي يرجع إلى الاختلاف في النظرة لطبيعة الإنسان.

يتضح مما سبق أن هناك تبايناً عميقاً في المفاهيم الأخلاقية للملاحدة والمتدينين، وإن اتفقت في الأسماء. فخُلق كـ “الرحمة Kindness” الذي يعني عند المتدينين الرعاية الكاملة  للضعفاء والمرضى والمحتضرين، يعني عند دوكنز معاملة الإنسان كالحيوان تماماً! إذ يوافق على الإجهاض دون ضوابط كما يوافق على قتل الرحمة.

وإذا جئنا إلى خُلق “الكرم Generosity” وعلاقته بالحمل غير المرغوب فيه، وجدنا المتدينين يهتمون برعاية الأمهات الحوامل والأطفال غير المرغوب فيهم، أما دوكنز وأمثاله فيهتمون بتوفير الإجهاض كخدمة مجانية.

من هذين المثلين، يتضح أن التشابه الخُلُقي بين المتدينين والملاحدة هو تشابه لفظي في المقام الأول، أما من الناحية الفعلية فهما مختلفان تماماً وربما متضادان، ولا شك أن ذلك أمر طبيعي يرجع إلى الاختلاف في النظرة لطبيعة الإنسان.

أخيراً نسأل، هل كان دوكنز محقاً حين قال: على المتدينين ألا يخشوا من المخرجات الأخلاقية للتطور؟

تعارض مخجل

القارئ الكريم.. يقوم مذهب دوكنز الفلسفي على ثلاثة دعائم، ” التعارض” بين الإله وبين قوانين الطبيعة، ومن ثم ينبغي أن نختار أحدهما كمنشئ للكون والكائنات. والدعامة الثانية “المماثلة” فدوكنز ينظر إلى الإله باعتباره سوبرمان عليه أن يسلك مثل البشر، لذلك يحاسبه دوكنز حساباً عسيراً إذا سلك على غير ما يتوقع!.. ووأخيراً “الاحتمالية” واعتماداً عليها يبني دوكنز الكون والحياة بالعشوائية والصدفة، وبنفس الدعامة – الاحتمالية – يستبعد دوكنز أن يكون الإله قد قام بعملية الخلق!.

إن دوكنز بهذا المنهج الفلسفي يضع ما يشاء من نتائج كمقدمات ينطلق منها، وهو منهج سفسطائي يمثل سياجاً حديدياً يحمي العقيدة الإلحادية، وقد كان دوكنز أول ضحايا هذا المنهج.

وينطلق دوكنز في رفضه للإله الحق من البحث الصبياني عن سبب السبب الأول الذي أوجد كل شيء. ويغيب عن دوكنز أن الاحتمالية الرياضية لا تعني الإمكانية الفعلية، كما يغيب عنه أن الصدفة ليست سبباً أولياً بل هي تعبير عن العلاقات بين الأسباب الحقيقية، ومن ثم فالصدفة “لاشيء” كما قال أرسطو.

وللخروج من مأزق الاستحالة الفعلية لأن يكون الانتخاب الطبيعي قد قام بعملية التطور البيولوجي، طرح دوكنز فرضية أسماها الانتخاب الطبيعي التراكمي، واستشهد عليها بأمثلة تفضح جهله بالمنطق والرياضيات بل وبالمنهج العلمي، ولا نريد أن نزيد ونقول أنها تفضح سوء نيته.

وعند معالجته لنشأة المنظومة الأخلاقية للإنسان يقع دوكنز في تعارض مخجل، فهو يؤكد أن هذه  المنظومة قد نشأت بالتطور الدارويني الذي لا يفرز إلا الوحشية والدناءة، وفي نفس الوقت يرى أن جوهرها مجموعة من الأخلاق الحسنة التي نشأت نتيجة لأخطاء تطورية! وأن علينا أن نُنَشِّىء  أبناءنا على هذه الأخطاء الحسنة، ونحن نسأله، ألا يؤدي معاندة قوانين الطبيعة إلى فناء الجنس البشري؟.

ولم تقف سوءات دوكنز عند عجزه الفلسفي وضعف استدلالاته العلمية، بل إنه يستخدم أسلوباً وقحاً متدنياً جعل أقرانه ينفضُّون من حوله ويصفونه بأنه مجرد ملحد هاوٍ سفسطائي مبتدء، مزيف للحقائق، يبدو كشخص ملأه الغرور والزهو، فأخذ يبعثر سبابه الحاقد على من لا يشاركونه الرأي.

__________________________

المصدر: خرافة الإلحاد، د. عمرو شريف، القاهرة، الشروق الدولية، ط2، 2014، ص: 356:352

[ica_orginalurl]

Similar Posts