“لا تخبرنا آيات القرآن الكريم أن هناك أرضا وجبالاً وبشراً ونوماً وليلاً ونهاراً وسماءً وشمساً وماءً ونباتاً وجنات ألفافا؛ فهذه كلها أمور نشهدها ونعرفها، وكل إنسان كافر كان أو مؤمناً يسلِّم بها؛ وإنما تدعونا الآيات إلى أن نفكر في الصلة بين كل واحد من هذه المخلوقات والأحوال وبين شيء آخر هو الإنسان المخاطب بهذا الكلام.

جعفر شيخ إدريسالقرآن الكريم

إن كل متأمل للمخلوقات يرى أنها ليست كوما عشوائيا من الموجودات، بل هي مرتبة ترتيبا ومصممة تصميما وراءه غاية تدل على أن لها صانعا عالما حكيما.

ويتجلى هذا التصميم في الإحكام الذي يجعل كل مخلوق أو كل جزء من مخلوق مصنوعا بطريقة، وموضوعا وضعا يجعله محققا لهدف، والذي يجعل حركة الخلق حركة متسقة لا يعطل بعضها بعضا، والذي يجعلها أنواعا متشابهة تشابهاً دقيقا، والذي يجعل القوانين التي تحكمها قوانين واحدة لا تختلف مهما اختلف الزمان أو المكان، اللهم إلا إذا أراد الله لها أن تتخلف تخلفاً يكون هو نفسه معجزة دالة على الخالق الواضع لتلك القوانين.

وفي هذا يقول الفيلسوف ابن رشد مبيناً دلالة الخلق على اتصاف خالقه بصفة العلم: “أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله –تعالى : “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” (الملك:14). ووجه الدلالة أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صُنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة؛ وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية، فوجب أن يكون عالماً به”.ابن رشد،مناهج الأدلة في عقائد الملة

إلى هذا الإحكام الدال على أن للمخلوقات خالقً مريداً عليماً حكيمً تنبهنا كثير من آيات القرآن الكريم: “أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً.وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً.وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً.وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً.وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً.وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً.وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً.وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً.وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً.لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً.وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً” (النبأ:6-16)

لا تخبرنا هذه الآيات أن هنالك أرضً وجبالاً وبشراً ونوماً وليلاً ونهاراً وسماءً وشمساً وماءً ونباتاً وجنات ألفافا؛ فهذه كلها أمور نشهدها ونعرفها، وكل إنسان كافر كان أو مؤمناً يسلِّم بها؛ وإنما تدعونا الآيات إلى أن نفكر في الصلة بين كل واحد من هذه المخلوقات والأحوال وبين شيء آخر هو الإنسان المخاطب بهذا الكلام. تدعونا الآيات إلى ملاحظة أن كل واحد من هذه الأشياء والأحوال يحقق بالنسبة لنا نحن البشر هدفاً وهذا لا يمنع أن تكون له غايات أخرى لا نعلمها.

دلالات معاني آي القرآن الكريم

فالأرض– هذا المكان الذي نعيش فيه– جُعل لنا مهادً، أي فراشًا كما جاء في آية أخرى. والمقصود أنها جعلت مناسبة لحاجتنا مناسبة الفراش لصاحبه من حيث اللين والسعة والوقاية. فكأن الآية تقول إنه إذا كانت صناعة الفراش تدلعلى أن إنساناً عاقلا صنعه، وأنه لم يأت اتفاقا، فمن الأولى أن تدل صناعة الأرض بهذه الطريقة المناسبة لمعاشكم على أن لها صانعا حكيما. “وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً”: فكما أن الوتد الذي تصنعونه ليس مجرد قطعة من الخشب مغروسة في الأرض، بل هو مصنوع ومغروس بهذه الطريقة ليؤدي غاية، فكذلك الجبال ليست مجرد نتوءات في الأرض، بل لها وظيفة متعلقة بالأرض ومن ثم بحياتكم.

وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً” لكي يستمتع بعضكم ببعض، ولكي تنجبوا أطفالاً تستمتعون بهم، ولكي يحفظ جنسكم البشري. “وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً” تنقطع فيه حركتكم، وترتاح أجسامكم، وتبرد أعصابكم، وتتخلصون به من كثير من الهموم والمشكلات النفسية. والليل والنهار: إنهما ليسا مجرد ظواهر فلكية نتجا مصادفة عن حركتي الشمس والأرض، بل إن لهما خالقً جعلهما بهذه الطريقة خدمة لكم، ففي الليل ترتاحون وفي النهار تكدحون. وحتى تلك الأفلاك البعيدة عنكم لها تعلق بكم، فكما أن الأرض لكم فراش فالسماء لكم بناء أي سقف، والشمس سراج يمدكم بالنور والحرارة اللتين لا تكون بدونهما حياة بشرية ولا حيوانية ولا نباتية.”الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء” (البقرة:22)

وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ” (الأنبياء:32)

وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً.لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً“(النبأ:14– 16)

وإذا كان كثير من الناس يغفلون عن الحكمة في خلق ما مضى ذكره من ظواهر وأحوال، فلا يكاد أحد ينظر إلى الغيث على أنه مجرد ماء نازل على الأرض من السحاب، بل إنهم ليدركون صلتهم به وحاجتهم إليه؛ فبه ينبت الزرع الذي يأكلون منه كما تأكل أنعامهم التي يعيشون عليها.

إن ميزة الأدلة القرآنية أن دلالتها ليست قاصرة على أن للكون خالقاً، بل تتضمن الدلالة على أن هذا الخالق هو وحده الذي ينبغي أن يعبد ويشكر ولا يكفر. بل إن بعضها –كما هو الحال هنا– ليتضمن الدلالة على أنه بعد هذه الحياة حياة أخرى يلقى فيها المحسنون جزاء إحسانهم، ويعاقب فيها الظالمون على ظلمهم.

إن بعض المنكرين لوجود الخالق المستكبرين عن عبادته، يذهبون كل مذهب في إنكار هذا التناسق العجيب في المخلوقات لما يعلمون من دلالته على وجود الخالق، ووجوب عبادته، وهم حتى حين يعترفون به يتعلقون بأوهى النظريات التي تفسره تفسيراً ينفي عنه القصد ويجعله أمراً حادثً بالمصادفة والبخت، ومن ذلك ما ذكره عالم الأحياء (ميلتون) ورد عليه كتابه (حقائق الحياة).

————————————

المصدر: من كتاب “الفيزياء ووجود الخالق” للكاتب

[ica_orginalurl]

Similar Posts