كيف السبيل إلى الجمع بين التطورية الداروينية المادية الإلحادية وبين إعطاء معنى أسمى لحياة الإنسان ومماته حسب دانييل دينيت ودوكنز؟ على ما يبدو أن الطريقة المثلى تأتي على أربع خطوات أساسية كما يلي: أولاً/ يتصور الإنسان احتمالية وجوده الضئيلة جدّاً. ثانياً/ يتصور الزمن التطوري المديد. ثالثاً/ يتصور عدد الكائنات الحية الهائل وعدد أنواعها في الكون ثم يختم بتصور حجم وعمر الكون نفسه!

(مقتطف من المقال)

دانييل دينيت (Daniel Dennett)

أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل من دانييل دينيت قائداً ثانويّاً للإلحاد العالمي مقارنة بدوكنز أو هيتشنز هو افتقاره الواضح إلى (موهبة) إثارة الجدل التي لا يمكن لملحد معادٍ للأديان الصمود في مهنته دون أن يمتلك نسبة ولو ضئيلة منها.

هو فيلسوف أمريكي يؤمن بالتوافق بين الإرادة الحرة والحتمية، هو رابع رباعي الإلحاد (The Four Horsemen) وهو أقلهم شهرة وصيتاً. كتابه كسر التعويذة: الدين كظاهرة طبيعية (Breaking the Spell: Religion as a Natural Phenomenon) الذي نشره في العام 2006 يحاول (كما هو واضح من اسمه) أن يشرح نشأة ووجود الدين على أسس علمية وفلسفية.

حقق كتابه هذا حوالي نصف رقم المبيعات الذي حققه كتاب سام هاريس “نهاية الإيمان”. وجود اسم دينيت ضمن الأربعة أعطاه بعض الزخم والشهرة، لكن الحقيقة هي أن دينيت أقل شهرة من البقية بدرجة كبيرة، وذلك لعدة أسباب أهمها بجانب كونه كبيراً في السن هو أنه ألطف بكثير مما ينبغي في نقده للدين؛ وهو ما جعله يفتقد إلى الـ (كاريزما) التي يُفترض أن تتوفر فيمن ينتقد الدين بحسب ما يجذب الملاحدة، إذ لا يخفى على أحد أن عوام الملاحدة الذين يتابعون أعمال أولئك المشاهير ليسوا في معظمهم ممن ينتقدون الدين فقط كما يفعل أمثال دينيت، بل هم ممن يسبّونه بحقد وكراهية كما يفعل هيتشنز ودوكنز وهاريس. أضف إلى هذا طريقة دينيت البطيئة في الكلام وملامح وجهه شبه الناعسة التي قد تصيب محاوره بالملل في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى افتقاده للجاذبية التي تضيفها اللهجات الأجنبية عموماً والبريطانية خصوصاً إلى الخطاب الإلحادي في الولايات المتحدة.

-كان دينيت قد استضاف ريتشارد دوكنز في منزله في حدود العام 2008 لكي يجري معه الأخير مقابلة هي واحدة من سلسلة مقابلات أجراها البيولوجي التطوري لحساب القناة البريطانية الرابعة وكانت تحمل عنوان (The Genius of Charles Darwin) أي عبقرية تشارلز داروين؛ كان لذلك اللقاء سِمة واحدة وطابع أوحد وهو الإفلاس المنطقي.. فعلى سبيل المثال؛ حينما طلب دوكنز من دينيت أن يخبره بتجربته التي أوشك فيها على الموت؛ قال دينيت بأن شريانه الأورطي كان قد انفجر وقد أجرى على إثر ذلك جراحة رُكب له فيها شريان اصطناعي، وبعد ذلك بدأ الاثنان يحاولان بشكل شبه هزلي شرح حياة الإنسان ومماته ومعاناته برؤية إلحادية دون أن يكون فيها تحقير له، ودون أن تُفسر قدومه للدنيا ورحيله عنها على أنه مجرد حيوان متطور جاء من العدم مصادفة ثم رجع إلى العدم الذي أتى منه إلى الأبد.

كيف السبيل إلى الجمع بين التطورية الداروينية المادية الإلحادية وبين إعطاء معنى أسمى لحياة الإنسان ومماته حسب دانييل دينيت ودوكنز؟ على ما يبدو أن الطريقة المثلى تأتي على أربع خطوات أساسية كما يلي: أولاً/ يتصور الإنسان احتمالية وجوده الضئيلة جدّاً. ثانياً/ يتصور الزمن التطوري المديد. ثالثاً/ يتصور عدد الكائنات الحية الهائل وعدد أنواعها في الكون ثم يختم بتصور حجم وعمر الكون نفسه!

أما التطبيق العملي لما سبق فإنه يكون على النحو التالي: في حال تعرّض الملحد إلى أي مصيبة فإن زعماء الإلحاد أولئك يفتونه أن باستطاعته أن يستمد الصبر ويحصل على السلوان من تذكره أولاً أنه محظوظ جدّاً لوجوده أصلاً على قيد الحياة على الرغم من أن احتمالية وجوده تعد ضئيلة جدّاً.

ثم بعد ذلك عليه أن يُلهي نفسه بالتفكر في أن وجوده على شكله الحالي احتاج إلى مليارات السنوات من التطور التدريجي البطيء الذي تسبب في النهاية في وجوده ووجود باقي الأحياء؛ وهذا أمر ينبغي أن يُنسي الملحد حزنه على ما يبدو. وأخيراً على الملحد أن يعرف حجمه الحقيقي مقارنة بباقي الكون، وأنه جزء صغير لا يُذكر من عالم حي كبير، وعليه أيضاً أن يتذكر أن هناك مجرات تبعد عنه مسافات تُقدّر بمليارات السنوات الضوئية تقع داخل كون يتجاوز عمره الثلاثة عشر بليون سنة، والمعنى: تفكر في جمال الكون لتنسى همك.

طبعاً لا يمكن لعاقل أن يتصور أن الكلام الساذج السابق يمكن أن يصبّر مريضاً أو مكلوماً ولا أن يواسي أسيراً أو مهموماً. ما يدفع قادة الإلحاد إلى النطق بذلك الباطل هو أن الإلحاد يقوم على الاختلاف مع الأديان في كل شيء مع عدم الاعتراف بقصوره في أي شيء. حتى وإن أرجع الملاحدة أصل الإنسان إلى قرد بدائي لا يقولون إن في ذلك تحقيراً له بل هو تشريف؛ ومنطقهم في ذلك هو أن الزمن التطوري الذي يزعمون أن الإنسان قد تشكل عبره كان طويلاً جدّاً؛ أي إن على الإنسان أن يفتخر بأن عملية (طبخه) وتحضيره كان قد تمت بواسطة التطورية على نار هادئة، وذلك أفضل من ظهور مفاجئ بقوة ذكاء خارجي! لهذا لا يعترف الملاحدة بأن فكرهم الإلحادي المادي يعجز تماماً وبشكل كلي عن تغطية الحاجات الروحية للجنس البشري بما في ذلك المواساة عند الأزمات.

ولو كان ما يتفلسف به دوكنز ودينيت صحيحاً فلماذا كان هيتشنز يتحسر حتى أواخر أيامه على الطريقة التي انتحرت بها أمه وعلى عدم تمكنه من مكالمتها وسماع صوتها قبل أن تُنهي حياتها؟ لماذا لم يتصور فقط أنها كانت (حيوانة متطورة) محظوظة ثم يتخطى الأمر؟ لماذا قال في مقابلته مع أندرسون كوبر على قناة الـ (CNN) إن عينيه تدمعان حينما يفكر في أبنائه الذين يُعتبر مرضه بالنسبة إليهم صدمة مروعة؟ ماذا عن الزمن التطوري؟ ألن يواسيهم ذلك؟ أيضاً لماذا تحسر هيتشنز على أن البابا بينيدكتوس السادس عشر وكذلك هنري كيسنجر كانا سيقرآن خبر وفاته في الوقت الذي كان هو يخطط لقراءة أو ربما كتابة نعيهما؟ ألم يكن هيتشنز يعرف حجم الكون حينها؟ ماذا عن آلاف الملاحدة والماديين الذين ينهون حياتهم كل يوم بالانتحار بسبب مشكلات متنوعة ومختلفة؟ لماذا لا يفكر أحدهم في أباطيل دينيت ودوكنز قبل أن يُقدم على الانتحار؟..

الطريف أن دوكنز في ذلك اللقاء كان قد امتعض من فكرة أن يتململ أحدهم من حياته ومن فكرة الشعور بالضجر.. والسبب طبعاً هو أن الرؤية الحكيمة التي وفرها دوكنز لقطيعه من الملاحدة ليست صالحة فقط للمواساة عند الشدائد بل وتقضي على الملل والضجر أيضاً!. طبعاً الخطوة المنطقية التالية حسب هذا الكلام يجب أن تكون: الإلحاد دواء لكل داء.

– ليس الأمر مزاحاً؛ فقادة وفلاسفة الإلحاد يحاولون حقّاً إقناع البشر باستخدام المنطق السابق أن حاجاتهم الروحية يمكن تلبيتها حتى وإن تخلّوا عن أديانهم وتحولوا إلى ملة الكفر والإلحاد تلك. لاحظ الفرق بين ما سبق وبين قول رب العزة والجلال: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ“.. هنا والله كل الطمأنينة.

بقي فقط أن أشير إلى جانب ما ذكرت سابقاً أن أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل من دانييل دينيت قائداً ثانويّاً للإلحاد العالمي مقارنة بدوكنز أو هيتشنز هو افتقاره الواضح إلى (موهبة) إثارة الجدل التي لا يمكن لملحد معادٍ للأديان الصمود في مهنته دون أن يمتلك نسبة ولو ضئيلة منها، ولو كان له حظ كافٍ من ذلك لحصل على الأرجح على باب كامل في هذا الكتاب مثله مثل دوكنز أو هيتشنز. فالعلاقة إذاً بين شهرة الملحد وبين كذبه وتدليسه هي علاقة طردية.


المصدر: الملحد والحياة والموت.. (من كتاب نظرة خلف الستار : بائعو التشكيك تحت المجهر – سامي أحمد الزين – مركز دلائل – الطبعة الأولى 1437هـ/2016م).

[ica_orginalurl]

Similar Posts