تحدث الكاتب في الجزء الأول من المقال عن أهمية السنة النبوية المطهرة.. وعن أنها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، و أنها لا غنى للمسلمين عنها لفهم كتاب ربهم؛ فهي الحَكَم في فهم نصوصه و تبيين مجمله و تحديد ناسخه من منسوخه… وإلى الجزء الثاني من المقال  والذي تناول مراحل جمع السنة المطهرة…

فهد مولاطو

السنة

أَذِن عليه الصلاة و السلام للصحابة بالكتابة عنه كما جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه…).

يجب علينا البدء بتقسيم مراحل جمع السنة إلى فترات زمنية تميزت كل منها بخصائص سنحاول إبرازها و تسليط الضوء عليها.

المرحلة الأولى: من بعثته صلى الله عليه و سلم إلى وفاته، و تعنى بجهود النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته لحفظ السنة و جمعها و العناية بها خلال هذه الفترة.

فلنعرض ما ميز هذه المرحلة من مظاهر حفظ السنة في ثلاثة أبواب كل مكمل للآخر.

أ: باب العناية النبوية بالسنة المحمدية

لقد تجلت العناية النبوية بالسنة الشريفة في مظاهر عدة، نذكر من أهمها:

1-أمره بتتبع و تعلم السنن

أمر النبي صلى الله عليه و سلم الصحابة بالاقتداء به و بتعلم طريقته في كثير من المواقف من مثل قوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) أو قوله: (خذوا عني مناسككم)، و ما زال الصحابة يقتدون به و يتقفَّون أفعاله كلها حتى صار هذا الأصل راسخا عندهم.

و قد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم السنة سببا لاستحقاق الإمامة في الصلاة بعد القرآن، حيث جاء في حديث أبي مسعود في صحيح مسلم (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة…). و أمثلة تتبع الصحابة لهديه و سنته أكثر من أن تحصى.

2-  تحذيره من مخالفته صلى الله عليه و سلم

لقد حذر النبي بل غضب على من رغب عن الاقتداء بسنته كما جاء في الصحيحين قوله: (من رغب عن سنتي فليس مني).

3- تعليمه الوفود

لقد كانت المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم منبع الوحي و مركز العلم، و كانت الوفود تأتي تترا مُعلنةً لإسلامها طالبة لتعلم دينها أو سائلة عن الدعوة الجديدة مستعلمة عن مضمونها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم جاهلهم و يجيب مستخبرهم بما يقر عينه و يشرح صدره للإيمان و دعوة الإسلام.

ووقائع تعليم الوفود في السيرة مشهورة كثيرة، منها وفد الأشعريين ووفد قبيلة طيء ووفد نجران الذي بعث معهم أمين هذه الأمة الصحابي الجليل أبا عبيدة ابن الجراح لتعليمهم و غيرهم.

4-أمره بتعليم الأهل و العشيرة

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي الوفود إذا انقلبوا إلى ديارهم أن يعلموا أهليهم و قومهم إذا رجعوا إليهم كما أمر بذلك رسول الله وفد عبد القيس و مالك بن الحويرث و أصحابه عندما وفدوا عليه و تعلموا منه، جاء في البخاري عن مالك بن الحويرث قال و كان (أي رسول الله)  رحيما رفيقا فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال ارجعوا فكونوا فيهم و علموهم…

5.تكراره و إعادته الكلام

كان رسول الله كما قال أنس إذا تكلم أعاد الحديث ثلاثا حتي يُفهم عنه، كما أُثِر عنه تكرار العديد من الخطب و الأدعية كخطبة الحاجة عن ابن مسعود، و كمستهل خطبة الجمعة كما روى جابر في صحيح مسلم، أو تكراره نفس الدعاء عند مفارقته لأصحابه.

كما كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يكرر الكلام المهم في مناسبات مختلفة وأوقات عدة كي يحفظه عنه من سمعه وكي يسمعه منه أكبر عدد ممكن من الصحابة، خذ مثالا على ذلك ما قاله أبو أمامة بن سهل كما عند الترمذي بعد أن سئل عن حديث هل سمعه من رسول الله فأجاب، لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى بلغ سبعا ما حدثتُكُمُوه.

6.تثبته من حفظ الصحابة

كان النبي صلى الله عليه و سلم يتثبت من حفظ بعض أصحابه لما كان يلقي عليهم من السنن و الأذكار كما استظهر البراء بن عازب دعاء النوم بعد أن لقنه إياه الرسول فلما أخطأ في لفظ حيث قال في الدعاء: و برسولك الذي أرسلت، عوضا عن: (و بنبيك الذي أرسلت) قال له رسول الله صلى الله عيه و سلم: (ﻻ.. بل: بنبيك الذي أرسلت) مع أن اللفظين متقاربان، و كذلك قول جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه و سلم كان يعلمهم الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن و الحديثان في البخاري، ومن هذا الباب قول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُحَفِّظُنا التشهد كما يحفظنا السورة من القرآن.

7.أمره بتبليغ السنن

أمرالنبي صلى الله عليه و سلم بالتبليغ عنه، تارة بأمر الوفود بتعليم أهليها كما مر، و تارة بأمرٍ عامٍّ كما ورد في خطبة حجة الوداع أمام عشرات الآلاف من الصحابة الكرام بلفظ (فليبلغ الشاهد منكم الغائب) عند نهاية خطبته الشهيرة في الدماء و الأعراض.

8.دعاؤه لمن بلَّغ السنن

أخرج الترمذي و ابن ماجه في حديث صحيح قوله صلى الله عليه و سلم (نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فوَعَاها وحَفِظها وبَلَّغها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه…).

9.إذنه بكتابة حديثه

أَذِن عليه الصلاة و السلام للصحابة بالكتابة عنه كما جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)، و ها هو أبو هريرة رضي الله عنه يشهد له بالسبق حيث يقول ما أحد أكثر مني حديثا إلا ابن عمرو فقد كان يكتب و لا أكتب.

10-كتابته للسنن

أمر صلى الله عليه و سلم بكتابة السنة.. حيث أمر بكتابة إحدى خطبه بعدما فتح مكة لصحابي اسمه أبو شاه فقال: (اكتبوا لأبي شاه)، أخرجه البخاري و مسلم، و كذا كتب صلى الله عليه و سلم بعض السنن و بعث بها مع بعض عماله كما كتب لعمرو بن حزم بصحيفة أرسلها إلى أهل اليمن فيها الديات و الجنايات و الفرائض و السنن و هو كتاب مشهور عند أهل العلم، وفي النقطتين الأخيرتين دلالة واضحة على وجود كتابة للسنن في عهده عليه الصلاة و السلام.

11.ذمِّه لمن رد السنة

ذم عليه الصلاة و السلام من رد السنن اكتفاء بالقرآن حيث جاء من قوله مبينا أهمية السنة و مكانتها (لا أُلْفِيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه و هو صحيح و جاء قوله مبينا لمكانة السنة و أن لا غنى للمسلمين عنها كما لا غنى لهم عن كتاب الله (ألا إني أوتيت الكتاب و مثله معه) أخرجه أبو داود عن المقدام بن معدي كرب، و هو صحيح أيضا.

12-دعاؤه بالحفظ لبعض الصحابة

دعا النبي لبعض الصحابة بالحفظ كما دعا لأبي هريرة بحفظ مقالته بعدما قالها و أن لا ينساها.

13-مدحه لمن حرص على تعلم السنن

لقد شهد صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة بالحرص على الحديث و مدحهم بذلك حيث جاء في البخاري عن أبي هريرة أنه قال (قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث) ثم ساق الجواب.

14-تحذيره من الكذب عليه

لقد اشتهر بل تواتر عند أهله قول رسول الله (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، و ورد بلفظ (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد.. من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

15.إرشاده إلى تداول الحديث

أرشد النبي عليه الصلاة و السلام إلى سماع الحديث ثم تبليغه ثم إلى تبليغ من سمعه إلى آخره، فقال كما في الحديث الصحيح في السنن عن ابن عباس أنه قال صلى الله عليه و سلم (تسمعون و يُسمع منكم و يُسمع ممن سَمِع منكم).

هذه بعض الخلال تنبئك عما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حرص على حفظ السنة و نشرها و الإعتناء بها.. وإلى باب صفات الصحابة و مظاهر عنايتهم بالسنة في المقالة القادمة بأمر الله تعالى.


المصدر: بتصرف عن موقع مركز يقين

[ica_orginalurl]

Similar Posts