موقع تيار الإصلاح (بتصرف)

الوعظ من المهارات المهمة التي لا يستغني عنها الداعية. وفي هذه الحلقة نستكمل الجزء الثاني من موضوع “الوعظ والإرشاد.. فقه وآداب“. ومع الآداب التي يجب أن تتبع لأداء الموعظة.

من آداب الوعظ العلم ولين الجانب

من آداب الوعظ العلم ولين الجانب

الآداب الجامعة لأداء الموعظة

أولًا: التحلي بالتقوى وإخلاص النية: قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3].

والتقوى هي التي تجعل الواعظ مخلصًا فيما يأمر به، أو ينهى عنه.

والتقوى الصادرة عن التفقه في الدين بحق هي التي تكسو الواعظ وقارًا، وحسنَ سمتٍ غير مصطنع، فتمتلئ القلوب بمهابته؛ فإذا ألقى موعظةً ذهبت توًّا إلى القلوب، وأثمرت كَلِمًا طيبًا، وعملًا صالحًا، وخلقًا فاضلًا.

ولهذا يحسن بالواعظ أن يتعاهد إيمانه، ويُعِزَّ نفسه، ويصونَ علمه، وأن يترفع عن السفاسف، وأن يجانب مواطن الرِّيب، ومواضعَ المهانة، وألا يسير إلا على ما يمليه الدين، وتقتضيه الحكمة والمروءة.

ثانيًا: العلم: قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

فلا بد للواعظ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه من فعل أو ترك، وأن يكون عالمًا بحال المدعو، ولهذا لما بَعَثَ الرسول معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب» إلى آخر الحديث، وما ذلك إلا ليعرف حالهم؛ ليستعد لهم، ومن البصيرة أيضًا أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وأساليبها.

ثالثًا: لين الجانب، وبسط الوجه، والإحسان إلى الناس: ومن الوسائل التي لها أثر في تَأَلُّف الجاهلين أو المفسدين، وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح؛ بسط المعروف في وجوههم، والإحسان إليهم بأي نوع من أنواع الإحسان، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة الدنيا؛ فإن مواجهتهم بالجميل، ومصافحتهم براحة كريمة قد يعطِّف قلوبهم نحو الداعي، ويمهد السبيل لقبول ما يَعْرِضُه من النصيحة.

والنفوس مطبوعةٌ على مصافاة من يُلبسها نِعْمةً، ويُفيضُ عليها خيرًا.

رابعًا: انتقاء العبارات الملائمة: فيحسن بالواعظ أن يكون ليِّن العريكة، وممن يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ، وألا يكون جافي الطبع، قاسي القلب، متعاليًا على السامعين، ويجدر به أن يترفع عن العبارات المشعرة بتعظيم النفس، كحال من يكثر من إدراج ضمير المتكلم (أنا) أو ما يقوم مقامه كأن يقول (في رأيي) أو (حسب خبرتي) أو (هذا ما توصلت إليه) ونحو ذلك.

فهذا كله مجلبة لتباعد الأنفس، وتناكر الأرواح، وقلة التأثير.

قال ابن المقفع: تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطبْ نفسًا عن كثيرٍ مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي؛ مداراةً؛ لئلا يظن أصحابك أن دأبك التطاول عليهم(1).

وقال الشيخ السعدي: واحذر غاية الحذر من احتقار من تجالسه من جميع الطبقات، وازدرائه، أو الاستهزاء به قولًا، أو فعلًا، أو إشارةً، أو تصريحًا، أو تعريضًا؛ فإن فيه ثلاثة محاذير:

أحدهما: التحريم والإثم على فاعله.

الثاني: دلالته على حمق صاحبه، وسفاهة عقله، وجهله.

الثالث: أنه باب من أبواب الشر، والضرر على نفسه (2).

خامسًا: الصبر والحلم: فمن مواعظ لقمان عليه السلام لابنه وهو يعِظه {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، فلا يحسن بالواعظ أن يكون ضيِّق الصدر، قليل الصبر؛ ذلك أن الجماعات التي استشرى فيها الفساد كالمريض، والواعظ لها كالطبيب.

وليعلم أن مهمته شاقة؛ فليستعد لها بالاستعانة بالله، وليداوِ كُلُومَ النفوس بالهدوء، وسعة الصدر، ولين الجانب، ومقابلة الإساءة بالإحسان؛ فإن تلك الصفاتِ رُقْيَةُ النفوس الشرسة، وبلسمُ الجراح الغائرة، وليستحضر أنه ما وقف أمام الناس ليخاصمهم؛ فَيَخْصِمَهم، ولكنْ ليداويَ فسادهم، ويردَّ شاردهم؛ فليحرص على أن يؤلف القلوب والنفوس بتلك الصفات.

قال الله تعالى في وصف نبينا محمد {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى له: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

سادسًا: مراعاة المدة الزمنية للموعظة: ولا ريب أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ فيختلف باعتبار حال الموعظة، ويختلف باعتبار حال الواعظ، ويختلف باعتبار حال المخاطبين؛ فالموعظة المفاجئة لها حال، والموعظة المحددة بزمان ومكان محددين لها حال، والموعظة المحددة بعنوان لها حال.

ثم إن الموعظة التي يلقيها فلان من الناس تختلف عن الموعظة التي يلقيها غيره؛ فالعالم وذو المكان له حال، ومن دونه في الرتبة له حال.

وكذلك السامعون؛ فالمقبلون على الموعظة لهم حال، ومن كان إقبالهم أقل فلهم حال أخرى وهكذا.

فمراعاة هذه الأحوال وأمثالها يعين الواعظ على التأثير في الناس، وإساغتهم للموعظة (3).

قال أبو هلال العسكري: والقول القصد أن الإيجاز والإطناب يُحتاج إليهما في جميع الكلام، وكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضع؛ فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه؛ فمن أزال التدبير في ذلك عن جهته، واستعمل الإطناب في موضع الإيجاز، واستعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ (4).

ومهما يك من شيء فإن التوسط والإيجاز هما أقرب الأساليب لإساغة الموعظة إلا إذا اقتضى المقام غير ذلك، وهكذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم فما كان يطيل؛ لأنه يخشى على الناس الملل، وكانت خطبه مع قصرها مليئة بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ إذ تجيء حافلة بجوامع الكلم، والجملِ التي تجري على الألسنة مجرى الأمثال.

جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: كنت أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا (5).

ومعنى قصدًا: أي متوسط بين الإفراط والتفريط وبين التقصير والتطويل.

وفي صحيح مسلم عن أبي وائل قال: خطبنا عمارٌ فأوجز، وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أبلغتَ، وأوجزتَ، فلو كنتَ تَنَفَّسْتَ!، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنةٌ من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا» (6).

ومع أن هذا هو دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه ومواعظه فهو يطيل في بعض الأحيان متى اقتضى الحال الإطالة.

جاء في صحيح مسلم: عن عمرو بن أخطب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فَأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا (7).

ومن خلال ما مضى يتبين لنا أن مدة إلقاء الموعظة أمرٌ نسبي يُرجع فيه إلى اجتهاد الواعظ، وحكمته، ويرجع فيه إلى اختلاف الأحوال والأشخاص.

سابعًا: الرفق في القول، واجتناب الكلمة الجافية: فإن الخطاب اللَّين قد يتأَلَّف النفوسَ الناشزةَ، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة أو الموعظة.

قال تعالى في خطاب هارون وموسى عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43- 44]، ولقَّن موسى عليه السلام من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18- 19].

ولهذا فإن الموعظة التي تُلقى في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى، ثم خطب، ثم أتى النساء، فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة (8).

اعلم أن الطباع لما خلقت مائلة إلى حب الشهوات المردية، والبطالة المؤذية، افتقرت إلى مقوم، ومثقف، ومحذر يرد، فهي في ضرب المثل كالماء يجري بطبعه، فإذا رد بسكر وقف عن جريانه ثم أخذ يعمل في فتح طريق، فكما ينبغي أن يتعاهد ذلك السكر بالإحكام فكذلك ينبغي أن تتعاهد الطباع بالزواجر، ولا ينبغي أن يطول أمد التعاهد، فإن عمل الماء في باطن السكر دائم وإن خفي، وكذلك الطباع في ميلها إلى ما يؤذيها، ولهذا بعث الأنبياء بالترغيب والترهيب، وأنزلت عليهم الكتب للتثقيف والتأديب، فما زالوا مبشرين ومنذرين، ثم خلفهم العلماء وقد كان العلماء كلهم يذكرون بفتاويهم وعلمهم، غير أن القصاص والوعاظ ترسموا بهذا الأمر لخطاب العوام، فالعوام ينتفعون بهم ما لا ينتفعون بالعالم الكبير، إلا أنه دخلت على بعضهم آفات(9).

فينبغي للواعظ أن يكون حافظًا لحديث رسول الله، عارفًا بصحيحه وسقيمه، ومسنده ومقطوعه، ومعضله، عالمًا بالتواريخ وسير السلف، حافظًا لأخبار الزهاد، فقيها في دين الله، عالمًا بالعربية واللغة، فصيح اللسان، ومدار ذلك كله على تقوى الله عز وجل وأنه بقدر تقواه يقع كلامه في القلوب.

وقال بعض السلف: إن الموعظة إذا خرجت من قلب الصادق وقعت في القلب (10).

ثم يصحح قصده؛ فإنه إذا صح قصده صرف الله القلوب إليه، ثم يخرج من قلبه الطمع في أموال الناس (11).

***

(1) الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع (ص: 134).

(2)  الرياض الناضرة لابن سعدي (ص 419).

(3) الموعظة وأثرها في إصلاح المجتمعات – ملتقى الخطباء.

(4) كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري (ص: 239- 259).

(5) أخرجه مسلم (866).

(6) أخرجه مسلم (869).

(7)  أخرجه مسلم (2892).

(8) أخرجه البخاري (975).

(9)  القصاص والمذكرين (ص: 176).

(10) الموعظة وأثرها في إصلاح المجتمعات- ملتقى الخطباء.

(11) القصاص والمذكرين (ص: 182).

 

[ica_orginalurl]

Similar Posts