لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة حدثا تاريخيا عظيما، ولم تكنْ كأيِّ حدث، فقد كانت فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها والمكان الذي وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا أشرف مكانا وأعظم من مكة والمدينة، وقد غيرت الهجرة النبوية مجرى التاريخ، وحملت في طياتها معاني التضحية والصحبة، والصَّبر والنصر، والتوكل والإخاء، وجعلها الله طريقا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، قال الله تعالى: “إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (التوبة:40).

من الدار إلى الغار:

الهجرة

كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة حدثا تاريخيا عظيما، ولم تكنْ كأيِّ حدث، فقد كانت فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية.

لم تكن قريش تعلم أن الله أذن لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة إلى المدينة، وبينما هم يحيكون مؤامرتهم كان النبي – صلى الله عليه وسلم ـ قد غادر بيته في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر السنة الرابعة عشر من النبوة وأتى إلى دار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج والهجرة، وخشي أبو بكر أن يُحرم شرف صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فاستأذن في صحبته فأذن له، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة، واستأجر رجلاً مشركاً يُقال له عبد الله بن أُريقط (ماهرا وعارفا بالطريق)، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء ـ رضي الله عنهما ـ بتجهيز المتاع والمؤن، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لوضع الطعام فيه، فسمّيت من يومها بذات النطاقين، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة.

ثم غادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من باب خلفي، ليخرجا من مكة قبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر بدوره .

لا تحزن إن الله معنا:

انطلق المشركون في آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون في جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور، وأنصت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه إلى أقدام المشركين وكلامهم.

يقول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : (قلت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري.

ومكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب، ثم خرجا من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، وانطلق معهما عبد الله بن أريقط (الدليل) وعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما فكانوا ثلاثة والدليل.

وعلى الجانب الآخر لم يهدأ كفار قريش في البحث وتحفيز أهل مكّة للقبض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه أو قتلهما، ورصدوا مكافأة لمن ينجح في ذلك مائة ناقة، وقد استطاع أحد المشركين أن يرى النبي – صلى الله عليه وسلم – من بعيد، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له: يا سراقة، إني قد رأيت أناساً بالساحل، وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هُم، فأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانيةً، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته مخاوفه، فحاول مرة أخرى فغاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم، وكتب له النبي – صلى الله عليه وسلم – كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أمره بالرجوع، وكتم خبرهم .

وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه بخيمة أم معبد، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن، فأخذ النبي – صلى الله عليه وسلم -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها، ثم حلب في إناء وشرب منه الجميع ..

وانتهت هذه الرحلة و الهجرة المباركة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ، ليصل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أرض المدينة المنورة.

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين، ولذا فإن دروس الهجرة الشريفة مستمرة لا تنتهي ولا ينقطع أثرها, وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، ومن هذه الدروس:

دور المرأة في الهجرة:

لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ ، التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأختها أسماء ذات النطاقين، التي ساهمت في تموين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، كما روى ابن إسحاق وابن كثير في السيرة النبوية أنها قالت: ” لما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر – رضي الله عنه – أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟، قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا” .

فهذا درس من أسماء ـ رضي الله عنها ـ تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة أمام قوى البغي والظلم.

الصراع بين الحق والباطل:

صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية قال الله: “الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” (الحج: 40)، ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة كما قال تعالى: “كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” (المجادلة: 21). ومكر وكيد أعداء الإسلام بالدعاة والدعوة إلى الله ـ في كل زمان ومكان ـ أمر مستمر ومتكرر، فعلى الداعية إلى الله أن يلجأ إلى ربه، وأن يثق به، ويتوكل عليه، ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال ـ عز وجل ـ: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” (الأنفال:30).

التوكل واليقين:

إن المتأمل لحادثة الهجرة والتخطيط لها، يدرك حسن توكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ربه، ويقينه أن الله حافظه وناصر دينه، وهذا التوكل لا ينافي أو يتعارض مع الأخذ بالأسباب فقد شاء الله تعالى أن تكون الهجرة النبوية بأسباب عادية من التخفي والصحبة والزاد والناقة والدليل، ولكن لا يعني دقة الأخذ بالأسباب حصول النتيجة دائما، لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل واليقين والاستعانة بالله، لتقتدي به أمته في التوكل على الله، والأخذ بالأسباب وإعداد العدة.

يقول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : (نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه؟! ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه مسلم.

معجزات على طريق الهجرة:

في هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقعت معجزات حسية، هي من أعلام نبوته، ودلائل ملموسة على فضله ومنزلته، وحفظ الله ورعايته له، ومن ذلك ما جرى له – صلى الله عليه وسلم – مع أم معبد، وما حدث مع سراقة بن مالك ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة أن لا يتنصلوا من ذكر هذه المعجزات وغيرها ما دامت ثابتة بالسنة الصحيحة.

أم معبد:

عن قيس بن النعمان ـ رضي الله عنه ـ قال : (لما انطلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر مستخفيان ، نزلا بأبي معبد فقال : والله ما لنا شاة وإن شاءنا لحوامل، فما بقي لنا لبن، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – أحسبه -: فما تلك الشاة؟، فأتى بها، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالبركة عليها ثم حلب عُسا (قدحا كبيرا) فسقاه ثم شربوا ، فقال : أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ ؟!، قال: إنهم يقولون، قال : أشهد أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك ؟، قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا، فاتبعه بعد) رواه البزار. وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلام أم معبد هي وزوجها.

سُراقة بن مالك:

يصف أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ما حدث مع سراقة فيقول: (فارتحلنا بعد ما مالت الشمس وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أُتينا يا رسول الله ، فقال : لا تحزن إن الله معنا ، فدعا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فارتطمت به فرسه إلى بطنها، فقال: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب ، فدعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنجا ، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفَّى لنا) رواه البخاري.

قال أنس: ” فكان (سراقة) أول النهار جاهدا (مبالغا في البحث والأذى) على نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له (حارسا له بسلاحه) “.

ومرت الأيام وأسلم سراقة بعد فتح مكّة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ، فأعطاه عمر سواري كسرى تنفيذًا لوعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال الله تعالى: “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى” (النَّجم: 3،4).

لقد تركت الهجرة النبوية المباركة آثارا جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر النبوة، ولكنها امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثارها شملت الإنسانية عامةً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت قدمت ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الأخلاقية والتشريعية التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، فسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تُحَّد آثارها بحدود الزمان والمكان، لأنها سيرة القدوة الطيبة والأسوة الحسنة، قال الله تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب:21)..

________________________________________

المصدر: موقع مقالات إسلام ويب

[opic_orginalurl]

Similar Posts