عبد الحميد العرفج
إن المتأمل في الشريعة يجد أن هناك عناية واضحة فيما يتعلق بجانب الآداب ورعايتها._1_~1
ومن جملة الآداب التي اهتم بها الشارع الحكيم وحث عليها ما يتعلق بآفات اللسان فقد جاء فيها آيات وأحاديث لا تحصى كثرة تدل في مجملها على الحرص على قول الصدق ومدح أهله والتحذير من الآفات الخاصة باللسان من الكذب والزور والإفك والوقيعة وغير ذلك، وتحض أيضا على قول الخير ونشره أو الكف عن الشر وبيان خطره، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم”، وحينما سئل عن عدد من خصال الخير: “تكف أذاك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك”.
ولا شك أننا في زمن تكثر فيه الإشاعة وتتنوع أساليبها وطرائقها، وتنتشر فيه كلمح البصر بما تيسر للناس من وسائل اتصالات قربت البعيد وأزالت حواجز الزمان والمكان، حتى صارت الكذبة أو الشائعة مرشحة لأن تبلغ الآفاق في غضون ثوان معدودة، بمجرد ضغطة زر!
وهذا يجعل مسؤولية الكلمة تتضاعف، وتوجب على المرء العاقل أن يفكر في الكلمة قبل أن يلفظها ولا يلقيها أو يكتبها جزافا وغافلا عن مغبتها، فتبلغ ما لا يظن أن تبلغ، وتبنى عليها أحكام، أو ينشأ عنها تصرفات قد لا تكون في مصلحة الأمة بكاملها.
وتكمن خطورة الشائعة في سهولتها على اللسان وعظم خطرها وأثرها الجسيم، وما تفسده في لحظات قد لا يعالج في سنوات، وقد تجرح جرحا فيصعب علاجه، والله جل وعلا أمر عباده المؤمنين بالتثبت فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).
ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم فلا بد أن يكون له منهج واضح يتعامل به مع الإشاعات، فالمسلم أولا حينما ترد إليه الأخبار والشائعات يقدم حسن الظن بأخيه المسلم، قال تعالى: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} (النور: 12)، ولا يتسرع في التصديق أو النقل أو الاتهام.
ثم عليه ثانيا التأكد من الخبر من مصدره ومن فهمه على الوجه الصحيح، فغالبا ما يؤدي تلقف الأخبار والفهم السقيم لها إلى مشكلات لا تحمد عقباها من الظلم والتجني ونشر الشائعات وإساءة الظن بالمؤمنين، فالتوثق من صحة النقل، وطلب الدليل عليه هو سمة من سمات المسلم الصادق الذي يحب الخير لنفسه ولإخوانه المؤمنين، قال تعالى في حادثة الإفك: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (النور: 13). وهذا فيه دلالة على طلب الدليل عند سماع الأخبار.
ثم عليه ثالثا ألا يسارع في نشر ما يتعلق بالأمور العامة للأمة وأن يكل ذلك إلى أولي الأمر والاختصاص كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 13).
فيجب على المرء أن يقف طويلا قبل أن ينشر رسالة أتته على بريدة أو جواله، أو خبر قرأه في أحد المواقع الاجتماعية أو الإخبارية، فإن مثل هذه الأخبار أو تلك الرسائل قد تكون مصوغة بطريقة ماكرة تقلب الحقائق، فكيف يصدق العاقل رسالة أو خبرا وينشرها بناء على أنها جاءته من صديقه فلان، أو أنه قرأ ذاك الخبر في الموقع الفلاني، وهو موقع مجرب على حد قوله، وفلان ذاك ثقة عنده، في حين أنه قد لا يكون فلان ثقة ولا ذاك الموقع ثقة في نفس الأمر لو وضع كل منهما على محك النقد الصحيح.
وإذا كانت الشائعات لها أقبح التأثير في المجتمع زعزعة لاستقراره، وإحداثا للفوضى والبلبلة في أفكار أفراده وإذهابا لتوازنهم، فإنها في أوقات الأزمات تكون أشد ضررا وأبعد أثرا وأكبر خطرا، وعادة ما يجد المرجفون في أوقات الأزمات والظروف غير العادية فرصة لا تعوض لدس سمومهم في معسول من الكلام الذي يظهرون للناس أنه يصب في مصلحتهم، وهو في الحقيقة انتهاز رخيص لا تتبين نتائجه الوخيمة إلا بعد فوات الأوان، وحينها يكون قد سبق السيف العذل ولات حين مندم.
فحري بالمسلم الواعي أن يضبط لسانه وقلمه فقد يندم المرء كثيرا على العجلة ولكنه لا يندم على التريث والأناة، وهي صفة يحبها الله من عبده كما جاء في الحديث.
أما من وقع في مثل هذه الآفة؛ فإن النصيحة المبذولة له أن يتقي الله تعالى في أعراض المسلمين ويكف فورا عن هذا الخلق الذميم، وأن يحاول إصلاح ما تسبب في إفساده، فإن كان له حساب في منتدى أو موقع إليكتروني أو مواقع التواصل الاجتماعي أو مجموعات بريدية أو من له بريدة الخاص أن يرسل من خلال هذه الوسائل تصحيحا لما أخطأ فيه مع التوبة والندم والعزم على عدم العودة. ثم ليعلم أنه لا ينقل الشائعات ويروجها في الغالب إلا الفارغون البطالون، الذين ليس لديهم من المهمات ما يشغلون به أوقاتهم فيشغلون أنفسهم وغيرهم بنقل القيل والقال.
فليحذر المسلم أن يكون مطية للإفساد وبث روح الهزيمة في أمته أو وطنه أو مجتمعه، وعليه قبل ترويج أي خبر أن يتذكر ما ورد في حديث البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق أنه يعذب في البرزخ بأن يشرشر شدقه ومنخره وعينه إلى قفاه، فما أشده من عذاب وما أطوله! وما أهون السلامة منه، إذ هي لا تكلف العبد غير ضبط لسانه وقلمه!

المصدر: موقع السكينة

[ica_orginalurl]

Similar Posts