ارتبط شهر رمضان بنزول القرآن الكريم “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ…” (البقرة:185) الذى ينظّم لنا الحياة كما تنظم إشارات المرور المرور، نزل القرآن في ليلةِ القدر ليقول الله تعالى للعالمين: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير” (الحجرات:13)، ومن الطبيعي أن تواجه هذه الدعوة من المستبدين والطغاة ومن الذين سرقوا الإنسان من نفسهِ فأذلّوه وامتهنوا كرامته، وكانت مقاومتهم مقاومة ضَارية ومستميتة دفاعًا عمَّا سرقوه واغتصبوهُ من حقوقِ الإنسانِ، فكانتْ الثورةُ الكبرى في تاريخ الإنسانيةِ بنزولِ القرآن، وبدأت المواجهاتُ المباشرة بين الحقِّ والباطلِ من أوّلِ عامٍ فُرض فيه الصيام سنة 2هـ بغزوة بدر الكبرى، ولم تتوقف هذه المواجهات إلى عصرنا الحاضر.. فكانت الفتوحات الإسلامية متوالية وإن بدت متباعدة بعض الشيء في عصرنا الحديث.

ويَجيءُ حديثنا عن الماضي لإحساسنَا أن الحاضرَ ابن الماضي، ودراستنا للماضي انطلاقة لإِضافةِ الحاضر الجديد إليه، وتَنطلقُ دراستنا لأهم الأحداث التاريخية والفتوحات الإسلامية في شهر رمضان في عالمٍ معاصرٍ حافلٍ بالتحدياتِ الدَّاخليةِ والخارجيةِ، وبدَا فيه ألاَّ مكان للضعيفِ، لذَا كان لِزامًا علينَا وحتمًا مقضياًّ أنْ نتدارسَ هذه الأحداثِ.

من نماذج الفتوحات الإسلامية في شهر رمضان

ولمتابعة النماذج الأولى من الفتوحات يمكنكم قراءة المقال التالي:

فتوحات إسلامية في شهر رمضان (1)

رابعا: غزوة تبوك ضد الروم.. وهى آخر غزوة غزاها النبي – صلى الله عليه وسلم – في السنة التاسعة للهجرة، وقد ذكر ابن اسحاق أن رجوعه صلى الله عليه وسلم – كان في رمضان، وأَنها استغرقتْ خمسين يومًا أقام منها عشرين يومًا في تبوك.

 وهذا يقتضى أَنه خرج – صلى الله عليه وسلم – في الخميس الثاني من شهر رجب (على أصح الأقوال)، وقد سمَّاها القرآن ”غزوة العسرة“، وكانت هذه الغزوة لظروفها الخاصة بها اختبارًا شديدًا من الله امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته سبحانه في مثل هذه المواطن؛ حيث يقول سبحانه: “مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ” (آل عمران:179).

 وقد تخلَّف عن هذه الغزوة المنافقون وعددهم بضعة وثمانون رجلًا إلا ثلاثة من المؤمنين الصادقين، سَجَّلَ الله توبتهم في سورة التوبةِ ( كعب بن مالك – مرارة بن الربيع – هلال بن أمية ).

 وقد تحولت القبائل التي تخضع لنفوذ الروم الى الخضوع للمسلمين، وتوسعت حدود الدولة الإسلامية دون قتال يذكر، وتبين للناس أنه ليس لأى قوةٍ من القوات أن تعيش في الجزيرة العربية سوى قوة الإسلام، بل إن زحف المسلمين إلى تبوك كان له أثره فيما بعد في المعارك التي فتحت الشام ومصر والشمال الأفريقي، لأنّ الروم تحصَّنوا في حصونهم خوفًا من المسلمين مما أَدى لخضوع هذه القبائل لسلطانِ الدولةِ الإسلاميةِ.

خامسا: موقعة البويب ضد الفرس في سنة ثلاث عشرة للهجرة، وجاءت هذه المعركة بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر وقتل قائدهم أبو عبيد بن مسعود، لذا فإن قائد المعركة المثنى بن حارثة أراد أن يثأر للشهداء في هذه المعركة الفاصلة أمام قوة لا يستهان بها، فلم يعبر نهر الفرات ونادى في قائدهم ”مهران” أنِ اعبرُوا أنتم! وحَمَل ”المثنى” على ”مهران” فقتله، وأجْهزَ عليه غلام نصراني من نصارى العرب الذين قاتلوا مع المثنى وامتطى فرسه، وفَنى جيش الفرس بين قتيلٍ وجريحٍ، وقوامه قرابة مائة ألف في شهر رمضان، وهكذا أذَلَّتْ هذه المعركة رقابَ الفرس، يقول ابن كثير: ” لقد ذلت بهذه المعركة رقاب الفرس، وهى بالعراق نظير اليرموك بالشامِ ” ( البداية والنهاية 7 /231).

وكانت هذه المعركة التي حدثت في رمضان فاتحة خير لانتصارات أخرى ضد الفرس كالقادسية ونهاوند.

 سادساً: فتح المسلمين للأندلس، ففي الخامس من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة، بدأ طارق بن زياد زحفه للأندلس، وفى الخامس والعشرين سنة اثنتين وتسعين للهجرة أكمل موسى بن نصير الفتح، ويُعدُّ هذا الفتحُ اقتحام لأوروبا التي كانت تعيش في حروب شبه متصلة بسبب نظام الإقطاع بها، وتعدُّ هذه الخطوة التي قادها ثلاثة من المسلمين طريف بن مالك وطارق بن زياد وموسى بن نصير بمثابة الزحف على هذه القارة التي تحتضن المسيحية منذ أن ظهرت.

وطريف هو أَول قائد عبر المضيق على رأْس خمسمائة من الخيالة والرجال تحملهم أَربع سفن من سفن ”جوليان” حاكم ”سبته” التابعة لإسبانيا؛  وسميت الجزيرة التي نزل عليها في رمضان 91هـ باسمه وما زالتْ تحمل نفس الاسم إِلى يومنا هذا، وعاد بغنائم كثيرة.

ثم اختار موسى بن نصير القائد طارق بن زياد واستطاع مع سبعة آلاف من المسلمين أَن يعبر المضيق حول هالة من القصص والروايات التي تدور بين الصحة والخيال، وفتح غرناطة وقرطبة وطليطلة عاصمة حكم ”القوط” آنذاك، وكان ذلك في رمضان 92هـ .

سابعاً: موقعة عين جالوت بين المصريين والمغول في 15 رمضان سنة 658هـ حيث استطاع المصريون بقيادة ”قطز” في شهر رمضان المبارك أن يهزموا هذه القبائل الهمجية التي لم يقف أمامها أحد، ويكفى أن نذكر نصّ رسالة هولاكو لقطز سلطان مصر لنرى مدى عنجهية هذه القبائل وقوتها، إذ جاء فيها: ”سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب ولكن أي أرض تؤويكم، وأي بلاد تحميكم؟ خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال “.

ولو استسلم حاكم مصر لهذه الرسالة لضاع العالم الإسلامي كله، ولكن صدرت الأوامر بقتل سفراء المغول الذين حمَلوا هذه الرسالة، وكان ذلك إيذاناً بقيام الحرب، وخرج الجيش المصري بقيادة ”قطز” ومساعدة ”بيبرس” إلى غزة ثم إلى عين جالوت بين بيسان ونابلس، وأبْلَى بلاءً حسناً وهو يصرخ واا إسلاماه! ، واستطاع أن يهزم المغول في معركة شرسة يقال استمرت من مطلع الفجر إلى منتصف النهار، وأسر قائد المغول وتفوه بالسباب والتهديد أمام قطز فأمر بقتله، واستمرت هزائم المغول أمام الجيوش المصرية بعد عين جالوت، وكانوا يعللون ذلك بأن المصريين معهم سيف الرسول – صلى الله عليه وسلم – .

ثامناً: استرداد أنطاكية من الصليبين في 4 رمضان سنة 666ه بقيادة القائد المظفر ”الظاهر بيبرس“، وكانت إمارة الشام من أقوى الإمارات الصليبية الباقية في الشام؛ لأنها كانت تتلقى إمدادات من أوربا، واستطاع بيبرس أن يدمّر نفسية قائدها فأرعبه نفسيًّا.

تاسعاً: حرب العاشر من رمضان بين المصريين والصهاينة في رمضان سنة 1393هـ =السادس من أكتوبر 1973م، فقد جاء هذا النصر بعد هزيمة مدوّية للدول العربية واحتلال أجزاء كثيرة من أراضيها في 1976م، ومنها شبه جزيرة سيناء، وقامت بعمل نقاط حصينة يصعب تدميرها واختراقها، وقام ”بارليف” قائد الأركان بعمل الساتر الترابي الذى عرف باسمه على طول الجبهة، إضافة إلى النابالم.

 وقالوا إن اجتياح هذا الساتر الترابي يحتاج إلى مهندسي الروس والأمريكان معًا، واستطاع الجنود المصريون أن يكسروا أسطورة الجيش الذى لا يقهر في العاشر من رمضان، مما حدَا برئيسة الوزاء ”جولدا مائير” أن تستغيث بالرئيس الأمريكي ”ريتشارد نيكسون” برسالة قصيرة: أنقذنا. .. الزلزال!!، واستجابة أمريكا للاستغاثة بإنشاء جسر جوى إلى إسرائيل يحمل الدبابات والطائرات وقطع الغيار…

المهم أنهم في هذا اليوم المبارك.. الأسود على الصهاينة فاقت خسائر إسرائيل كل تقدير، وقالت رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك : ”إنّ خسائرَ بلادها تفوق خسائر الولايات المتحدة في حروب الهند والصين التي استمرت عشر سنوات “.

وأطلق ”مناحم بيجين” على هذه الحرب ”حرب الأبناء”؛ لأن القتلى جُلُّهم من الشبان الذين لم يتجاوز الواحد منهم الرابعة والعشرين من العمر.

وهذه الحرب من مفاخر العرب في العصر الحديث؛ إذ تعاون العرب جميعاً فيها وأبْلَى قادة الأمة آنذاك بلاءً حسناً، يُضرب به المثل، وما أحوجنا إلى مثل هذا التعاون الآن.

وبعد… فليس آخراً العاشر من رمضان، ولعل الله يرزقنا نصرًا مؤزرًا في هذا الشهر الكريم على أعدائنَا في كل مكان.

__________________________________

المصدر: شبكة ضياء للمؤتمرات و الدراسات http://diae.net/15439

[opic_orginalurl]

Similar Posts