عبد الحميد الكبتي

في كل عام وبعد موسم الحج المبارك، موسم المغفرة والرحمات، يبدأ العام الهجري الجديد، ويتجدد معه تذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الهجرة التي

الهجرة النبوية

في الهجرة دروس للخلاص لنا ولأمتنا

أنجبت دولة حضارية في زمن قياسي في تاريخ الأمم، وسادت قوانين السماء الربانية أرجاء المعمورة، وأينع البناء الحضاري في كل روضة وربوة من فيحاء هذه الدنيا.

ومع إشراقة كل عام جديد يقف المسلم بين يدي هذا الحدث، متأملاً معتبرًا محللاً، علّه يرتقي بنفسه وبمن حوله إلى مستوى الحدث الضخم في تاريخ البشرية، يستمطر الرحمات لواقع مؤلم ونفس جموح، وتشتت في الجهود والإمكانات.

وللهجرة معنيان: حسي ومعنوي، وفي معناها اللغوي هي الانتقال، وقد يكون الانتقال حسيًّا بترك مكان لآخر، وقد يكون معنويًّا بالانتقال من ثقافة إلى أخرى.

ومن معاني هذا الأخير قول الله تعالى: {والرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5)، وقوله عز وجل: {واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} (المزمل: 10)؛ فهي مراجعة لكافة الموروثات الثقافية والبنائية، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ أو الفساد في الفهم والتطبيق، مراجعة عملية فاعلة.

والهجرة إن هي إلا رديف لمعنى التزكية، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها” [أبو داود بسند صحيح].

إن الحديث عن الهجرة يجب ألا نقف فيه عند مظاهر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسرد التفاصيل التي وردت عنها، بل نحن مطالبون بالغوص في عميق جذرها، وتحليل نفسية الهجرة وفلسفتها؛ كي نعي وندرك منها بعضًا من سبل الخلاص لأنفسنا وأمتنا الكريمة.

إن التلازم بين معنيي الهجرة -الجسدي والنفسي- لا يزال قائمًا ما دام المؤمنون لم يمسكوا بزمام الأستاذية العالمية، ولا يزالون حتى ذلك الوقت يحتاجون إلى المعين المزدوج للهجرة النبوية العطرة، ولا يتوقف أبدًا المعنى النفسي أو المعنوي؛ لأنه بمثابة الزاد والتزكية للأنفس والمجتمعات.

فالهجرة النبوية نهر جاري العطاء في كل حين بإذن ربه، يغرف منه المؤمن رواء له حينًا بعد حين، يربط الحداثة بالواقع، ويتلقط منها ما يريد.

أهمية الهجرة

1- تخليص المؤمنين من حالة العوَز وقلة الأمن، ومن ثم إطلاق قدراتهم الإنتاجية في حالتَي السلم والحرب معًا، قال تعالى: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً} (النساء: 100)، والمراغم هو المنعة والقوة، أو ما يرغِم به المؤمنون أعداءهم على مساومتهم ومنعهم من العدوان عليهم، والسعة هي سعة العيش، وقال تعالى: {والَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ولأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل: 41).

فالمهاجر في سبيل الله اليوم إنما يهاجر ليطلق لنفسه قدراتها، ويتحلل من كل قيد يلزمه بالقعود، والمهاجر في سبيل الله اليوم مطالَب بأن يطلق لفكره وعقله وعلمه كل الآفاق الرحبة الواسعة.

والأمة تقف أمام أمر إطلاق الطاقات هذا وتتمعن في نفسها، وما يكبلها من آسار الأغلال الثقيلة التي جعلتها في آخر الأمم، وتمعن الأمة النظر في الأمن والحريات التي هي أول مدارج الصعود نحو الهجرة؛ لتعي الهوة الكبيرة بينها وبين الهجرة النبوية العطرة.

كذا المسلم -بله الداعية- يقف ليراجع فكره ونفسه، ويستخرج الأغلال التي تحيط به أن ينطلق الانطلاقة المباركة وفق شرع ربنا الحكيم، وقدوته صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام.

إن الأعداد الكبيرة من المسلمين التي تهاجر اليوم الهجرة العكسية إلى بلاد الغرب، ثم تظل تدور حول نفسها متأثرة بالمحيط الذي تعيش فيه، غاب عنها معنى إطلاق الطاقات هذا، وفات عليها لُباب الأمر في فقه الهجرة.

2- والهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ كونها تتمحور حول المثل الأعلى عليه الصلاة والسلام، ولا تزال الأمة بعافية ما دامت على صلة قوية بهذا المثل الأعلى، سواء في إنضاج فكرها أو تقدم مدنيتها، ومن تدبَّر أحداث الهجرة ودقائقها أدرك أهمية حركة التجديد، وترك البيئات المغلقة إلى البيئات المفتوحة، سواء أكانت بلدًا أو مؤسسة، أو حتى نفس المؤمن ذاته؛ إذ المثل الأعلى يحث دائمًا على أسمى الغايات، ويدفع لإنجاز أرقى الحضارات، ولن يتحقق ذلك إلا بالتجدُّد المنفتح، المتعلق بالمثل الأعلى عليه الصلاة والسلام.

3- والهجرة مطلب قوي لتماسك الجبهة الداخلية في الأمة؛ إذ هي المراجعة والمحاسبة، سواء الذاتية أو الجماعية أو المؤسسية.

إذ جوهر الهجرة يقوم على هَجْر كل ما لا يليق، وبهذه النظرة الواعية لمعنى الهجرة يكون النقد البناء، وتكون المراجعات الربانية للسَّيْر، والتفرس في الأخطاء، وهذا من أقوى عوامل النهوض الحضاري.

إن حالة الأمة اليوم -وحال أفرادها في الغالب- لفي أشد الحاجة إلى إطلاق الطاقات الكبيرة التي تحوزها في أبنائها، وتوفير الأمن والاستقرار لهم؛ فما سعى النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة إلا بعد سنوات من الكبت والتضييق؛ فكانت المدينة المنورة البيئة التي انطلق فيها البناء الحضاري، ونلمس اليوم إما كبتًا لمجتمعات كاملة، أو فقدانًا للدور في كثرة من أفراد الأمة.

وحركة التجديد التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (أبو داود بسند صحيح) هذه الحركة تحتاج إلى تجديد في الأفراد والمؤسسات.

والنقد الداخلي والتوبة والمراجعة قوة تتماسك بها الأمة، وتسترد بها عافيتها، ويتنفس بها كل فرد أنسام البناء الحضاري.

وما أصدق قول شاعر الدعوة وليد الأعظمي حين قال:

يا هجرة المصطفى والعين باكيـةٌ *** والدمع يجري غزيرًا من مآقيها

يا هجرة المصطفى هيّجت ساكنةً *** من الجوارح كاد اليأس يـطويها

هيجت أشجاننا والله فانطلقت *** منا حناجرنـا بالحزن تأويها

إنها دموع الداعية تنهمر من مآقيه على واقع أمته، وتعطل منابع الخيرات فيها، لكن الأمل يتجدد دائمًا بهجرة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام مصدر الاقتداء في المحن والمنح.

ومع إدراك فقه الهجرة وأبعادها يُطوَى اليأس، وتُطوَى معه مراحل في النفس وفي الآفاق الدعوية، وما ثمة مكان للحزن: {إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة 40].

——-

* المدير السابق للمركز الإسلامي بسيون /بسويسرا.

** المصدر: أون إسلام.

 

[ica_orginalurl]

Similar Posts