فاطمة حافظ

كتاب الدعوة إلى الإصلاح

كتاب للشيخ محمد الخضر حسين

مع انتصاف القرن التاسع عشر كانت معالم المشروع الإصلاحي الإسلامي قد ارتسمت في الأفق، وما هي إلا سنوات معدودات حتى عم العالم الإسلامي شرقه وغربه، بحيث يمكن القول بأن كل منطقة من مناطق العالم الإسلام برز فيها عدد من الرواد الإصلاحيين، وأنتجت مشروعها الخاص المعبر عن خصائصها الحضارية، والذي يلتقي مع المشروع الإصلاحي العام في الغايات المتمثلة في محاولة تحقيق النهضة وبعث العالم الإسلامي من رقدته. وشيخنا محمد الخضر حسين هو أحد الرموز الإصلاحية المغاربية، وله إسهاماته في المشروع الإصلاحي عبرت عنها مواقفه ومؤلفاته.

سيرة ذاتية فكرية

ولد محمد الخضر حسين في مدينة “نفطة” التونسية لأسرة تنحدر من أصول جزائرية، ولا نعلم على وجه اليقين سنة ميلاده حيث تختلف الكتابات التي ترجمت لحياته في ذلك، فهي تحصرها في الأعوام من 1873م إلى 1876م وإن كانت تجمع على أن وفاته كانت في فبراير 1958م[1] .

حفظ الخضر حسين القرآن الكريم وهو طفل صغير، واضطرت أسرته إلى الرحيل إلى تونس العاصمة ليلتحق بجامع الزيتونة، وقد ظل الخضر ملازما للدرس في الجامع إلى أن نال شهادة التطويع عام 1898م، فأصبح مؤهلا لإلقاء الدروس في الجامع العريق والتأهل للمناصب الدينية، فتولى خطة قضاء مدينة بنزرت بتأثير من صديقه الطاهر بن عاشور (ت1973)، وما لبث أن استقال من عمله وعاد إلى العاصمة وعيّن في المدرسة الصادقية عام 1907م، وهي المدرسة الثانوية الوحيدة في القطر التونسي آنذاك.

وعرف عنه نشاطه الفكري حيث أصدر مجلة السعادة العظمى (1904) وهي أول مجلة مطبوعة تصدر في تونس، كما كان من أبرز محاضري الجمعية الخلدونية -تأسست عام 1896- والجمعية الصادقية -تأسست عام 1905- وقسم كبير من محاضراته دار حول ضرورة الحفاظ على اللغة العربية وهي محاضرات تُعد جريئة في مضمونها في بلد خاضع للاحتلال الفرنسي المعروف توجهه لخلخلة البنى الثقافية للبلدان الواقعة تحت حكمه.

وفي أعقاب عدد من الاصطدامات مع سلطة الانتداب الفرنسي في تونس هاجر إلى دمشق عام 1912، واشتغل بالتدريس في المدرسة السلطانية إلى أن ألقي القبض عليه أثناء الحرب العالمية الأولى بتهمة الانخراط في حركة سرية عربية معادية للأتراك على عهد جمال باشا ومكث سجينا لبضعة أشهر، وما إن أفرج عنه حتى ارتحل إلى الدولة العثمانية واشتغل بوزارة الحربية التركية التي ابتعثته في مهمة رسمية إلى ألمانيا، وفي أعقاب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية عاد الشيخ الخضر حسين إلى دمشق ودرَّس في المدرسة السلطانية، وأصبح عضوا في مجمع اللغة العربية، واستمر كذلك إلى أن احتل الفرنسيون دمشق وأصدروا حكما غيابيا عليه بالإعدام ففر إلى القاهرة.

تعد فترة إقامة الشيخ في القاهرة والتي امتدت منذ مفتتح العشرينات إلى وفاته عام 1958، مرحلة الاستقرار في حياته وفيها انتقل من مرحلة النضال السياسي إلى مرحلة النضال الفكري ففي عام 1925 وضع كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) الذي تصدى خلاله لتفنيد رأي علي عبد الرازق في الخلافة الإسلامية، وفي عام 1926 أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) ليرد على أطروحة طه حسين في الشعر الجاهلي، وفي العام التالي مباشرة وضع كتابه (الدعوة إلى الإصلاح)، وحاول خلاله أن يبحث في العلل التي أصابت الأمة الإسلامية حتى تكالبت عليها الأمم الأجنبية.

وخلال إقامته بالقاهرة شارك في تأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية؛ ففي عام 1927 أسهم مع  صديقه أحمد تيمور باشا في تأسيس جمعية (الشبان المسلمين)، كما نهض بتأسيس جمعية (الهداية الإسلامية) في العام التالي وأصدر لها مجلة تحت هذا العنوان، وعندما أصدر الأزهر مجلته (نور الإسلام) في مطلع الثلاثينيات تولى رئاستها إلى أن استقال منها عام 1933 إثر خلافه الفكري مع الأستاذ محمد فريد وجدي (ت 1954) مدير المجلة.

شهدت السنوات التالية تقلد الشيخ الخضر حسين عددا من المناصب الدينية المرموقة حيث نال عضوية هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عام 1951، وعندما قامت الثورة المصرية عام 1952 وقع اختيارها على الشيخ ليكون أول شيخ للأزهر في عهد الثورة، ولكنه ما إن شعر بالضغوط السياسية تمارس عليه وتحول بينه وبين الحفاظ على استقلالية المؤسسة الأزهرية العريقة حتى استقال من منصبه عام 1954 حيث تفرغ بعدها للتدريس إلى أن انتقل إلى جوار ربه تعالى في فبراير 1958م[2]

خلَّف الخضر حسين وراءه عددا من المؤلفات القيمة ننتخب منها: محاضرته المطبوعة حول الحرية في الإسلام (1906)، والخيال في الشعر العربي (1922)، والدعوة إلى الإصلاح (1927)، ورسائل الإصلاح (1939) ويقع في ثلاثة مجلدات، ويشمل مجموع مقالاته ومحاضراته، وأسرار التنزيل الذي أعيدت طباعته عام 1976.

معالم الرؤية الإصلاحية

بالإمكان أن نميز بين ثلاثة مسارات انتظمت مسيرة حياة الخضر حسين، وهي: المسار الوظيفي، والمسار النضالي الذي تبدى في مناهضته للاحتلال الأجنبي وفي مواجهته محاولة الدولة القومية لبسط سيطرتها على المجال الديني، أما الثالث فهو المسار الفكري الإصلاحي الذي عبر عنه انخراطه في تأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية، وإنشاؤه عددا من الصحف، ومؤلفاته التي تصنف ضمن تيار الإصلاحية الإسلامية.

 وبصفة عامة يمكننا أن نجمل معالم الرؤية الإصلاحية للخضر حسين في النقاط التالية:

أولا: الاعتناء الكبير باللغة العربية باعتبارها حافظا للهوية الإسلامية، في وقت باتت هذه الهوية معرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى بفعل الاحتلال الأجنبي ودعوات التغريب، وقد تجلى هذا الاعتناء في عدد كبير من البحوث المنشورة في مجلة مجمع اللغة العربية وفي بعض المؤلفات المعنية باللغة العربية.

ثانيا: الدفاع عن كيان دولة الخلافة العثمانية ضد الأخطار التي تتهددها استنادا إلى أن الخلافة هي المظلة الجامعة التي تنضوي تحت ظلها كافة الأمم والشعوب والأعراق الإسلامية، ويرتبط بهذا إيمانه العميق بأن الرابطة العقدية تعلو على الرابطة القومية المصطنعة التي أوجدها الاستعمار الأجنبي، ولعل هذا ما يفسر لنا حركيته العالية وانتقاله للإقامة في عدد من الحواضر الإسلامية دون شعور من جانبه بمشاعر القومية الضيقة.

ثالثا: الاشتباك مع المشروعات الفكرية المضادة للمشروع الإسلامي ومحاولة نقضها، ومبعثه استشعار الشيخ أن الخطر على الإسلام يتأتى من العدو الخارجي المحتل، ومن بعض العناصر الداخلية التي تؤمن بتفوق هذا المحتل وضرورة الأخذ بكل ما تنتجه حضارته، وتسعى من أجل ذلك لتقويض ما رسخ من مؤسسات الإسلام وهدم اللغة العربية.

رابعا: الدعوة إلى الإصلاح انطلاقا من الأرضية الإسلامية ذاتها وبعيدا عن الأطر الحضارية الأخرى، والعمل على نشر هذه الدعوة في المراكز الإسلامية الكبرى في الزيتونة والمسجد الأموي والجامع الأزهر.

الرؤى الإصلاحية في كتاب الدعوة إلى الإصلاح

جاء وضع الخضر حسين كتابه (الدعوة إلى الإصلاح) عام 1927 في أعقاب خفوت الضجة التي أثارها كتابا الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق وكتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، وقد صدر عن المطبعة السلفية لصاحبها السيد محب الدين الخطيب، وقد جاء الكتاب في مقدمة وثلاثة عشر فصلا موزعة على أربع وثمانين صفحة.

مقدمة الكتاب تبين الغاية التي من أجلها قام مؤلفه بوضع كتابه -وهي تفسر أيضا دواعي اهتمامنا به بعد مضي أكثر من ثمانية عقود على صدوره- فقد ورد بها أن الكتاب “يبحث في العلل التي لبست الأمم الإسلامية وقعدت بها في خمول حتى ضربت عليها الدول الغربية بهذه السلطة الغاشمة، ويوردون في نتيجة بحثهم أسبابا شتى”[3] ويجزم الخضر حسين بأن التهاون بتعاليم الشريعة وما يدعو إليه القرآن الكريم من وجوه الإصلاح ووسائل المنعة هو السبب الحق الذي أدى بالأمم الإسلامية إلى الوقوع فريسة بين يدي الدول الأجنبية، وهذا التهاون مرده التقصير في الدعوة إلى الحق وعدم استقامة الرؤساء على طريقة الدعوة والإرشاد.

يتمحور الكتاب حول قضية الدعوة في الإسلام: شروطها، ومن الذي يقوم بها، ومناهجها وآدابها إلا أن الخضر حسين قام بمقاربة غير تقليدية لهذه القضية مخرجا إياها من نطاق الدراسات الكلاسيكية التي تبحث في النصوص الإسلامية والتراثية إلى نطاق الدراسات الحية التي تتفاعل مع الواقع بعناصره المستحدثة ومستجداته ويتجلى ذلك في مناقشته لعدد من القضايا التي لا تزال تثار في اللحظة الراهنة.

من هذه القضايا ما أثاره تحت عنوان “الحاجة إلى الدعوة” من مسألة هل يستقل العقل الإنساني وحده بتمييز الصحيح من السقيم دون الحاجة إلى وجود غيبي يهتدي به؟ وهو سؤال طرح بقوة في حقبة العشرينات على يد العلمانيين العرب ولم يزل مطروحا حتى الآن، ويناقش هذه المسألة مناقشة عقلية بحتة لا أثر فيها للنصوص، ويتوصل إلى أن العقل الإنساني به قوة تعقل الحق والباطل، إلا أنه يقصر عن بلوغ هذه الغاية لأسباب أهمها تغلب الأهواء وتفاوت العقول، ويؤسس على ذلك أن دعاوى الإصلاح المجتمعية لا بد أن تسترشد بالمصدر الإلهي الغيبي ولا تستقل بالاعتماد على العقل كمصدر وحيد يرسم خطى الإصلاح.

ومن القضايا الهامة التي يناقشها مسألة انتشار المذاهب والدعايات الفكرية المناهضة للإسلام داخل الأمة الإسلامية والتي تبثها فئة استمالها الأعداء فهي تسعى إلى مناهضة الإسلام والطعن في شريعته تحت ستار من الأكاذيب حول القديم والجديد وأنصار الجديد الذين يجابهون دعاة التقليد والحفاظ على القديم. وهؤلاء يرومون إلى التشكيك في صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان كما يرومون إلى صرف همة المصلحين عن وجوه الإصلاح في الأمة إلى التصدي لكشف ضلالتهم وزيف ادعاءاتهم[4].

وبالنظر إلى اتساع ضرر هذه المذاهب يرى الخضر حسين أن التصدي للدعايات الإلحادية ومروجيها يعد واجبا من أهم الواجبات التي يتوجب على الدعاة مواجهتها، عبر اتخاذ أدوات دعوية محدثة مثل افتتاح نواد لإلقاء المحاضرات وإنشاء صحف أو مساعدة صحف تظاهر الدعوة بإخلاص[5].

ويولي الخضر حسين عناية خاصة لمسألة علاقة المصلح الديني بالسلطة السياسية، وينطلق من إقرار مبدأ أساسي وهو أن دعوة أرباب السلطة السياسية إلى حق أو صالح تعد فريضة قائمة غير قابلة للإسقاط، يتساوى في أدائها وتحرير الذمة منها عز الدين بن عبد السلام وأحد مصلحي هذا العصر[6]. وينتقل من هذا لمناقشة مسألة امتلاك السلطة أدوات القهر والبطش وتمتعها بنوازع استبدادية يخشى منها المصلح أن توقعه في الضرر والبلاء بطرق كثيرة أهمها العزل من المنصب، وفي هذا يقول الخضر حسين “أفلا يليق بأهل التوحيد الخالص ما داموا يستيقنون أن الله يرزق الداعي إلى الإصلاح من حيث لا يحتسب أن يكونوا أزهد الناس في المنصب الذي يطوي ألسنتهم عن قول الحق، أو يحملهم على مجاراة رئيس لا ينهى النفس عن الهوى”[7]

وتحت عنوان “ما يدعى إلى إصلاحه” يدرج الخضر حسين قضية اكتساب الوسائل الكفيلة بنهضة الأمة من الصناعات الحديثة والعلوم النظرية والطبيعية باعتبارها من أهم ما ينبغي أن يشدد في الدعوة إليه، وذلك لأن عظم مصلحتها والخطر الذي ينشأ عن إهمالها دليل واضح على أنها فيما تأمرنا الشريعة بالمسابقة إليه، وإذا كان غير المسلمين قد أفلحوا في إنتاج بعض نظم مدنية ومعارف وصناعات حديثة فإنه “لا حرج على إخوان الإسلام أن يحاكوا غير المسلمين، ويعملوا على مثالهم فيما يحسن في نظرهم من هذه النظم والفنون؛ فإن إحجامنا عن أخذ ما بأيدي المخالفين من المعارف والنظم المفيدة في هذه الحياة يُفضي بنا -كما قال أبو حامد الغزالي– إلى أن نحرم من كل صالح سبقونا إليه”[8].

فمن واجب دعاة الإصلاح أن يبحثوا في أحوال الأمم الأخرى المتقدمة عما يصلح للاقتباس منها ويلائم أوضاع أمتهم وينقلوه إليها، كما يتعين عليهم أن يعرفوا أسباب ارتقاء الأمم وعلل سقوطها ليهتدوا بها.

بهذا الفهم المستنير لدور الدعاة إلى الإصلاح في تشخيص علل الأمة ووصف أدوائها يختتم الخضر حسين كتابه الذي تطرقنا إلى بعض قضاياه مستهدفين بعض رؤاه الإصلاحية التي ساقها في هذا الكتاب، ومحاولة لفت الأنظار إلى ما تحويه بعض الكتب التي تنتمي إلى عصر النهضة من آراء يمكن تفعيلها والبناء عليها في العصر الراهن.

——

[1] يوسف وغليسي، رسائل العلامة محمد الخضر حسين (دمشق: مجلة مجمع اللغة العربية، المجلد 84، ج4)، ص 992.

[2] من مقدمة الدكتور محمد عمارة لكتاب: محمد الخضر حسين، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم (القاهرة: دار التنوير الإسلامي، 1999)، ص 18- 21.

[3] محمد الخضر حسين، الدعوة إلى الإصلاح (القاهرة: المطبعة السلفية، 1927)، ص4.

[4] المرجع السابق، ص 76.

[5] المرجع السابق، ص12.

[6] المرجع السابق، ص65.

[7] المرجع السابق، ص60،61.

[8] المرجع السابق، ص 81، 82.

المصدر: إسلام أون لاين

[ica_orginalurl]

Similar Posts