حامد العطار

لا يخطئ الباحث اعتراف علماء كبار بصعوبة ووعرة دراسة أحكام الربا، والوصول إلى ضوابط جامعة لإحكام أطرافه وضبط دروبه وتشعباته، فضلا عن كشف مقاصد أحكامه.

فهذا ابن كثير (المتوفى: 774هـ) يقول : “باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم”([1]).

وهذا الشاطبي  (المتوفى: 790هـ) يقول : ” يبقى النظر: لِمَ جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم”([2]).

ولو انتقلنا بالحديث من أحكام الربا إلى مقاصده وعلله، لوقفنا على تصريحات واعترافات لفقهاء كبار أشد في الاعتراف بضبابية الدراسة، لكن موضوع هذا المقال عن  الأحكام لا الحِكَم.

وفي الدراسات الجامعية والعلمية التي تنأى بنفسها عن دراسة أحكام الربا، دليل آخر على صعوبة الدراسة، صعوبة على الأساتذة والباحثين على حد سواء، فنظرة واحدة على  التباين بين حجم المنتجات العلمية عن الربا، ومثيلاتها المتعلقة بسائر أبواب الفقه، قادرة على الكشف عن صعوبة الدراسة!

بل إن بعض المؤلفات الفقهية التي خاضت في ذكر التفاصيل الفقهية المتعددة اكتفت بدراسة أبواب العبادات فقط، ولم تقترب من أبواب المعاملات.

وبعض المؤلفات الفقهية المستفيضة، كانت دراستها في  أبواب المعاملات مقتضبة عابرة، تصل إلى السطحية والسذاجة!

تقاطع الربا مع غيره من العلوم

يمكن رد هذه الصعوبة إلى أسباب متعددة، منها  تقاطع الربا مع أنواع أخرى من العلوم، مثل علم الاقتصاد، ولا عجب أن  يبرز أحد الناس في جانب من العلوم ، ولا يبرز في جانب آخر، وهذا الإمام السيوطي رحمه الله تعالى يقول عن نفسه: “وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني؛ وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلاً أحمله”([3]).

مع أن السيوطي عالم موسوعي ألف في كثير من العلوم. والسيوطي في ذلك لا يتحدث عن نادرة لا تكاد تحدث لغيره، بل إن كان ثمة ندرة في قوله ذلك، فهي في شجاعته في الاعتراف، لا في صعوبة علم الحساب عليه.

غير أن هذا السبب قد لا يكون هو أبرز الأسباب، فإننا قد وجدنا الفقهاء يدرسون جانبا من علم الحساب – الرياضيات- في باب المواريث، ولم يعجزهم ذلك على اختلاف مشاربهم وقدراتهم.

كما أن دراسة الربا في كتب التراث، لا تتوقف على معرفة شيء من علم الاقتصاد، وإن كان الدارس له سيخرج بعلم لا يكاد يجد له تطبيقا في المؤسسات المالية والتجارية!

تعدد صور الربا

من الأسباب التي تؤدي إلى صعوبة الإلمام بأحكام الربا، احتياج الدارس إلى تعلم صور المعاملات المالية المحرمة تفصيلا، صورة صورة.

فالربا في النهاية نوع من أنواع المعاملات المالية المحرمة،  وهو ليس صورة واحدة، بل دروبه وصوره متعددة متشعبة، ومتجددة، وبعضها افتراضي هندسي، ربما وصل إليه الفقهاء بافتراضهم قبل أن يصل إليه الناس في أسواقهم!

ومثل ذلك، مثل من يريد أن يدرس الصور الممنوعة والباطلة والمكروهة للصلاة، فإنه سيجد مشقة فادحة؛ لأن صور اختلال الصلاة متجددة، فهذا مصل سلَّم ناسيا سجدة من الركعة الثانية، وهذا آخر صلى منحرفا عن القبلة بمقدار قليل، وهذا آخر نزل من الركوع إلى السجود دون أن يرفع منه، وهذا آخر  لم يتابع الإمام  فتأخر عنه في ركن أو ركنين، وهكذا.

حينما يدرس الدارس كتاب الصلاة، لن يجد تفصيلات لهذه الصور، بل سيجد ضوابط للصحة والبطلان، فإن الفقهاء لم يتتبعوا صور الخلل في الصلاة، ولا يمكنهم ذلك.

لكنهم على العكس من ذلك، تتبعوا صور الخلل في المعاملات المالية الصحيحة التي تؤدي إلى الربا، بل وزادوا عليها افتراضات، اقتضتها القسمة العقلية، والذهنية الهندسية، وأصبحت هذه الصور كلها جزءا لا يتجزأ من  أبواب فقه الربا في كتب الفقه، ومن المتعذر أن يتجنب الدارس دراسة  هذه الصور الربوية؛ لأن الربا ليس إلا صورا باطلة وفاسدة وممنوعة من المعاملات المالية، فالربا  في أبواب المعاملات = الصلاة الباطلة في أبواب العبادات.

الربا وعلم والنحو

ومن ذلك أن الربا لا يمكن استيفاء دراسته من خلال كتاب الربا وحده من أبواب المعاملات، فلا بد أيضا من دراسة باب القرض، والشركات، والبيع، والصرف، والحوالة، والصلح، والكفالة، وبيع الدين،  فليس باب من هذه الأبواب إلا وتدخله الصور الربوية.

ومثل ذلك، مثل دراسة باب من أبواب كتب النحو، لا يمكن إتقان دراسته إلا باستيفاء دراسة سائر أبواب كتب النحو، فإنه قلَّ أن تجد جملة إلا وإعرابها يحتاج  إلى الوقوف على سائر أبواب النحو أو أغلبها.

غياب النظرية الفقهية

ومن ذلك أن المدونات الفقهية تناولت الربا كغيره من الأبواب الفقهية بالدراسة الجزئية التفصيلية، وهذا النمط في التصنيف حدا ببعض المستشرقين لأن يذهبوا إلى القول بأنَّ العقل الإسلامي بطبيعته بسيطٌ وغير مركب، فهو في نظرهم شديد العناية بالجزئِيَّات مع إغفال الاهتمام بالبناء العام، يهتم بالفكرة التفصيلية دون اهتمامه بالقضيَّة الكبرى الشموليَّة.

وبغض النظر عن  صحة هذه التهمة، فإن  النمط التصنيفي في كتب الفقه يهتم بالتفاصيل والجزئيات بالفعل، والانتقال من حكم إلى آخر، فيعرض الأحكام متناثرة متفرقة، وليس فيه ما بات يُعرف بالنظرية الفقهية، وعيب هذا النمط أن الدارس يضطر فيه إلى قراءة جميع التفاصيل وإتقانها حتى يصل إلى المعلومة الكاملة، كما عليه أن يفهم هذه الصور ويستظهرها  كلها؛ لأنه لا يوجد رابط بينها يستعاض بمعرفته عن استظهارها.

في العصر الحديث، عرفت المكتبة الفقهية النظريات الفقهية، وظهرت بعض النظريات الفقهية في المعاملات المالية، ومنها أبواب الربا.

بعض هذه المحاولات يسرت بلا شك دراسة الربا والمعاملات المالية عموما، من خلال ضم النظير إلى نظيره، ووضع الجزئيات المتشابهة تحت عناوين جامعة، إلى وضع ضوابط وأحكام عامة للتأطير والتنظير.

غير أنها في رأيي لم ترقَ إلى وضع ما يمكن أن يسمى نظرية، فقد كانت أقرب إلى كتب الأشباه والنظائر والقواعد الفقهية.

بحسب اطلاعي، فإن كتاب “القواعد النورانية” لشيخ الإسلام ابن تيمية هو الذي يستحق أن يوصف بتقديم النظرية الفقهية في العقود، ومنها الربا، وقد اقتفى الدكتور سامي السويلم منهج ابن تيمية في كثير من إسهاماته العلمية، يمكن اعتبارها مدخلا جيدا إلى دراسة أحكام الربا .

 

[1] تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 710).

[2]  الموافقات (4/ 382).

[3]  حسن الحاضرة، ص 179.

______

* المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف يسير).

[opic_orginalurl]

Similar Posts