منزلة الدعوة إلى الله تعالى منزلة عالية شامخة، من اعتلاها كان كالمنزلة التي هو الدعوة الفردية 1فيها عاليا شامخا، ذا شأن عند ربه تعالى، لأنه مبلغ كلمته ومحببه لخلقه، ودال الضال التائه عليه، ومقيم صرح دينه في أرضه وفي قلوب عباده.

والقيام بمهمة البلاغ هذه يتخذ طريقين اثنين: دعوة جماعية ودعوة فردية.

الدعوة الجماعية تدخل فيما يسمى التأطير العام، أو ما نعرفه من خطب، ومواعظ،

ودروس، ومحاضرات تلقى في المساجد والجوامع وسائر الفضاءات العمومية، أو عبر الوسائل المسموعة أو المرئية.

سُميت هذه الدعوة جماعية لأن المتلقي فيها جماعة أو جماعات تتلقى الرسالة من الملقي الذي يوجه خطابا عاما يتوخى من خلاله اختصار الوقت والجهد، وتحقيق فائدة وأثر أوسع وأشمل، حيث إن لهذا الجنس الدعوي فضله وأثره الذي لا يمكن – بأي حال – إنكاره.

القائمون بالدعوة الجماعية ليس كل الناس، وإنما هم في الغالب دعاة، وعلماء، ووعاظ، وأصحاب مراتب وشواهد علمية، حيث إن هؤلاء غالبا ما يقومون بهذا النوع من الدعوة، في الوقت الذي لا تحظى فيه الدعوة الفردية بالاهتمام نفسه من لدن أهل الاختصاص، او من لدن الكثير من الناس الذين يمكنهم القيام بالدعوة الفردية بأشكال متعددة ومختلفة حسب الوسع والمعرفة بما يدعون إليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم “بلغوا عني ولو آية” رواه البخاري.

تعريف الدعوة الفردية

الدعوة الفردية ما يقوم به المسلم من الأنشطة الدعوية بجهوده الذاتية سواء أكانت هذه الأنشطة جاءت مصادفة أم مقصودة، وتتم عبر اللقاءات والاجتماعات وجلسات المجالس ومناقشات الزملاء.

وتتميز الدعوة الفردية بكثرة حدوثها، لأن المسلم لا يخلو من لقاءات يومية، كما تتميز بسهولتها، وإمكان الأخذ والعطاء، وتبادل الآراء فيها مع الطرف الآخر، ولذلك فمطلوب من الجميع الإسهام فيها، فهي قناة مشتركة لكل مسلم لأداء واجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى”.

والدعوة الفردية هي – بلا شك – أنفع من الدعوة الجماعية، بل هي العمود والأساس الذي ينبني عليه صرح الإصلاح، لذلك اهتم بها النبي صلى الله عليه وسلم في المراحل الأولى لدعوته المباركة حيث كان يطوف صلى الله عليه وسلم بالأسواق ومشاعر الحج يدعو من لقيه من الناس للإسلام، بل لم يكن يدع عليه الصلاة والسلام الدعوة والأمر والنهي في سفره وحضره، راجلا وراكبا كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: “كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال لي: يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك…” أخرجه الإمام أحمد.

 

نماذج للدعوة الفردية

الدعوة الفردية كانت حاضرة أيضا في تحركات الأنبياء السابقين عليهم السلام، حيث دعا نوح عليه السلام قومه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، قال ابن كثير: “نوع عليهم الدعوة لتكون أنجح” وعلق القرطبي على قوله تعالى “و أسررت لهم إسرارا” “أي أتيتهم في منازلهم”.

وهذا مصعب بن عمير يوفده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد العقبة الأولى فيسلم على يديه كل من سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة وأسيد بن خضير، سادة الأوس والخزرج بعد دعوته لهم للإسلام.

وهذه أم شريك التي كانت رضي الله عنها تنتقل بين البيوت وتجلس مع النساء تبلغهن دعوة الحق، وتنقل إليهن نور الوحي، وتهديهن إلى طريق النجاة مستخدمة في ذلك الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فأثرت بأسلوبها في الكثير من النسوة القرشيات فأسلم بعضهن.

والنماذج من الأولين والآخرين كثيرة فيما بذلوه من جهد في مجال الدعوة الفردية، وتنقلهم في الأمصار، والقرى، وطوافهم على الناس في مجالسهم ونواديهم لتبليغ دعوة الخير لهم.

خصائص الدعوة الفردية وأسباب نجاحها

خصائص الدعوة الفردية أنها تربي الأفراد تربية متكاملة، فلا تقتصر على جانب واحد. كما أن من خصائصها متابعة الأفراد متابعة دقيقة، فلا تكتفي ب “الق كلمتك وامض”، وإنما تتطلب التعهد المستمر ومتابعة المدعو.

أما أسباب نجاحها، فقد لخصها الأستاذ ابن زيد المقطري فيما يلي : “الإخلاص، صلة الداعية بالله تعالى، العلم، التخطيط والتنظيم، التعرف على الصفات الشخصية للمدعو، البدء بالأقربين لقوله تعالى (و أنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء:214).

والخلاصة أن التفريط في الدعوة الفردية أصبح ظاهرة شائعة في صفوف الدعاة وسائر المسلمين، يشهد بذلك واقع أهليهم وأولادهم وسائر أقربائهم، ومن دون هؤلاء من جيران وغيرهم، حيث يخالطونهم ويؤاكلونهم ويشاربونهم، ويرونهم على ضلالة، فلا يحركون ساكنا ولا يبصرونهم بالموعظة الحسنة، وفي الحديث: “إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: “لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبيس ما كانوا يفعلون” رواه الترمذي.

يقول ابن الجوزي –رحمه الله- : “أين أنت والطريق –طريق الدعوة– طريق نصب فيه آدم، وناح لأجله نوح، وألقي في النار إبراهيم، وبيع يوسف بدراهم بخس، ونُشر بالمناشير زكرياء، وذُبح الحصور يحيى، وضنى بالبلاء أيوب، وعالج الفقر محمد صلى الله عليه وسلم”.

وختاما نقول: إن مؤشر حياة الداعية: حركته الدؤوب، والحماسة الدفاقة، والغيرة على دين الله، والرحمة بالخلق التي تدفعه للقيام بواجب الدعوة أينما كان، يلقي بكلمته، فيعظ وينصح، ويعلم ويذكر، ويوقظ الوسنان. فرب كلمة يلقيها الرجل يستصغرها، فتؤتي أكلها، وتنقذ مسلما من الضلالة ومن النار. وإن آخر يوم من حياة الداعية هو ذلك اليوم “الذي يتخلى فيه عن أعز ما يملك، يتخلى عن دعوته، إنه يوم مظلم قاتم، لأن سقوط الداعية يتعدى ضرره إلى غيره، ويثقل كاهل الدعوة، ويزيد من أعبائها، عدا ما تحدثه هذه الظاهرة من شرخ وتصدع في بنية العمل الإسلامي”.

—–

 

المصدر: كتاب “ومضات على طريق الدعاة” للأستاذ: المصطفى ناصري (بتصرف).

 

[ica_orginalurl]

Similar Posts