د.حازم علي ماهر

لمسنا في الفترة الأخيرة كيف صار «تجديد الخطاب الديني» محلاً للسجال الذي لم يقتصر على المسلمين وحدهم، بل تجاوزهم إلى غير المسلمين الذين بات بعضهم دعاة للتجديد الإسلامي ومنظرين له، وهو أمر بالغ الغرابة، والأغرب منه أنه صار أمراً ليس غريباً، وكأنه من البديهي أن يتصدى لتجديد الدين وخطابه أناس من غير أهله، بل ومن أعدائه أحياناً!

يجب أن يكون التجديد نابعا من الذات الحضارية للمسلمين

ولا يمكن تفسير هذا الأمر بمعزل عن ظاهرة «الإسلاموفوبيا» التي تهيمن حالياً على الخطابين السياسي والإعلامي في كثير من دول العالم، لا سيما في الدول الكبرى المتحكمة، وهو ما ربط بين مفهومي الإرهاب وتجديد الخطاب الديني، فجعل الأول تكأة للتحكم في الثاني، وإذا بنا نجد أنفسنا أمام حالة من الجرأة على الدين نفسه في سياق الدعوات إلى مكافحة الإرهاب عبر تجديد الخطاب!

ولقد رأينا مؤخراً كذلك كيف امتدت الجرأة على الإسلام تحت شعار «تجديد الخطاب الديني» إلى حد مطالبة البعض – من المسلمين للأسف – بتعديل قواعد الميراث لتحقيق المساواة المطلقة بين الذكور والإناث، مناقضة للنصوص القرآنية قطعية الدلالة التي نصت في حالتين محددتين على أن للذكر مثل حظ الأنثيين، ومتغافلين عن أن المساواة المطلقة شرطها التماثل المطلق وهو أمر غير متحقق في بعض حالات الميراث لاختلاف أدوار الرجل عن أدوار المرأة في منظومة الثقافة الإسلامية، وهو اختلاف تنوع تكاملي لا تضاد صراعي كما هو في الثقافة الغربية على سبيل المثال.

رؤى سياسية علمانية

والحقيقة أن الأمر لم يقتصر على الدعوات إلى تجاوز الدلالات الصريحة لآيات القرآن الكريم المحكمات، بل وصل إلى حد أن دعا البعض صراحة إلى حذف بعض من تلك الآيات من المناهج الدراسية وتجاهلها تماماً وتعطيلها، ولا سيما تلك التي تدعو الناس إلى الجهاد ومقاومة الظلم ونصرة المستضعفين، بحجة أنها تدعو إلى العنف والإرهاب!

كما أصبحت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني غطاء لتدخل السياسيين في شؤون المؤسسات الإسلامية – الرسمية وغير الرسمية – والتحكم فيها وفي مناهجها وفي علمائها ودعاتها بحجة تطويرها والأخذ بأيديها لتقود تجديداً حقيقياً في الخطاب الديني، على حين أن التجديد الرشيد يقتضي منح هذه المؤسسات استقلالية حقيقية وحرية كاملة في الحركة لتمنحها المصداقية اللازمة لنجاح مساعيها في مقاومة الغلو والانحراف في فهم الدين، وفي إعادة الفعالية للعقيدة الإسلامية في إصلاح أحوال المسلمين بصفة خاصة والإنسانية بصفة عامة.

ولم يقف هذا التجنيد السيئ لمفهوم تجديد الخطاب الديني عند السياسيين وحدهم، بل امتد إلى بعض غلاة العلمانيين الذين أرادوا استغلال ذلك المفهوم في التمكين لحلمهم المنشود بفصل الإسلام عن الحياة العامة ليتحول إلى مجرد شعائر وطقوس فردية فيما بين العبد وربه، فإذا بهم يناقضون شعاراتهم المعلنة التي تدعو إلى الحرية والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، فيدعون – صراحة وضمناً – إلى ما يصادر هذه الحريات والحقوق عبر إجبار الناس على فهمهم – هم – المغرض للإسلام المحاصِر لدوره السامي في الحياة، رغم عدم امتلاكهم لناصية الاجتهاد الشرعي ولا للتجرد اللازم للقيام بهذه المهمة.

إن مثل هذه الدعوات ليست إلا مجرد خطوات – يبدو أنها محسوبة – لإخضاع الخطاب الديني لرؤى سياسية علمانية ليتسق مع الطبعة الجديدة من الحداثة الغربية التي اتسمت بالسقوط في هاوية السيولة والنفعية المادية والنزعة الاستهلاكية والانحطاط الأخلاقي، على عكس ما يرنو إليه تجديد الخطاب الديني الإسلامي الذي له بواعث مشروعة تدفع إليه، ومنطلقات ينبغي أن تراعى، وضوابط وحدود لا يجوز أن يتجاوزها أو يتخطاها، فضلاً عن أنه – في النهاية – مجرد اجتهاد بشري نسبي في بيان موقف الدين (ذي المصدر الإلهي المطلق) من القضايا المعاصرة بأسلوب يتناسب مع روح العصر، ويجذب الناس إلى الالتزام الديني – طواعية – بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

نحو التجديد الرشيد

وليس هناك مجال الآن للحديث بالتفصيل في كل ما يتعلق بالخطاب الإسلامي وبتجديده، ولكن هناك نقاطاً أساسية أعتقد أنه من المهم التنبيه إليها عند النظر في أمر هذا التجديد حتى نتجنب تحويله عن مساره السديد، وننقذه من أن يكون أداة في يد المعادين للإسلام والجهلاء به على السواء، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: الخطاب الديني هو حلقة ضمن سلسلة متكاملة ومترابطة تحتوي على النصوص الشرعية والفقه الآخذ عنها والفكر المتعمق فيها والدارس لها ولكيفية تنزيلها على واقع ديناميكي متقلب ومتباين، ويأتي دور الخطاب للتعبير عن كل عناصر هذه السلسلة بأسلوب متناغم يتحتم ألا يخرج عن إطارها العام، ولا سيما قطعيات الشرع التي جرى النص عليها بنصوص قطعية الثبوت والدلالة؛ مثل: الفروض الشرعية المحددة بآيات قرآنية قطعية الدلالة كالصلاة والزكاة وصوم رمضان وتحريم الزنا والربا، أو تلك التي حازت مرتبة القطعية عبر الاستقراء التام مثل المقاصد الكلية الخمسة للشريعة الإسلامية؛ وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

ولكن هذا لا ينفي أن كل عناصر الحلقة المذكورة ينبغي أن تخضع للمراجعة وللتجديد كلما اختلفت الأزمنة والأمكنة والظروف والأشخاص والأحوال، غير أن التجديد بالنسبة للنصوص الشرعية ذاتها يقتصر على إزالة الشوائب عنها وفي فهمها وتنزيلها على الواقع، ولا يجوز بأي حال من الأحوال العمل على تغييرها أو تبديلها، فهو اجتهاد في النص لا ضد النص، ومن ثم فإن العنصر الأول الحاسم في منع تجنيد الخطاب الديني هو رفض خروجه عن إطاره العام وإلا فهو مجرد تبديد يستهدف التجنيد!

ثانياً: علاقة الخطاب الديني بالواقع المعيش هي علاقة تفاعلية متبادلة، لا علاقة أحادية استعلائية، بمعنى أنها ذات اتجاهين؛ أولهما يستهدف السمو بالواقع ليرتفع إلى ما ترنو إليه مقاصد الشريعة الإسلامية وقيمها الأساسية وأحكامها القطعية من تحقيق مصالح الأنام الشرعية الضرورية منها فالحاجيّة فالتحسينية، وثانيهما يستجيب لما يفرضه الواقع من تحديات تقتضي المزيد من المرونة والتيسير والمعاصرة والرحمة وسعة الأفق، فلا يتعالى عليه أو ينعزل عنه أو يحيله إلى معيشة ضنك يحرم فيها كل فعل إيجابي من شأنه أن ييسر العيش على الناس.

ويترتب على هذه العلاقة باتجاهيها ضرورة فقه الواقع مع فقه النص ثم فقه التنزيل الأمثل للنص على الواقع، وهذه كلها أدوار أساسية للمفكرين والفقهاء الذين عليهم أن يفقهوا كلاً من أولويات الشرع وتحديات الواقع ويفقهون الموازنات بين المصالح والمفاسد ثم يرسمون خريطة للإصلاح الشامل يعبر عنه الخطاب الديني فيسوّق لها ويعبر عنها كي تتخلل الواقع وتواجه تحدياته وتسمو به.

ثالثاً: تجديد الخطاب الديني ورقيه ومعاصرته لا تعتمد فقط على حسن إعداد المخاطِبين (بكسر الطاء) بل تمتد كذلك إلى تهيئة المخاطَبين (بفتح الطاء) وتوعيتهم بدور الخطاب الديني وبمنطلقاته وبمضامينه وبأهدافه وبمتطلباته، فضلاً عن ضرورة أن يسبق ذلك ويوازيه العمل على صناعة كل من المفكر والفقيه حتى يستطيعا القيام بمهامهما التي سلفت الإشارة إليها، وهو أمر يدفع إلى ضرورة إصلاح التعليم (الديني وغيره) ليستبدل بتلك العقليات التلقينية السطحية عقليات نقدية تحليلية متعمقة في فقه النص والواقع، كما يتعين كذلك الانتباه إلى ضرورة تضافر الجهود في هذا السبيل بين علماء الدين وخبراء الواقع بمكوناته المختلفة والتعاون فيما بينهم بهذا الشأن، مع منحهم استقلالية كاملة؛ فكرية وإدارية ومالية.. وهي متطلبات يمكن التعبير عنها جميعاً – بإيجاز – بأنه ينبغي لتجديد الخطاب من إصلاح حال أطرافه وعناصره فضلاً عن تهيئة البيئة اللازمة لذلك التجديد ولرشده وفعاليته.

رابعاً: الانتباه إلى أن تجديد الخطاب الديني وفعاليته ترتبط كذلك ارتباطاً لازماً بأن يكون نابعاً من الذات الحضارية للمسلمين لا تابعاً للآخرين، وإن استفاد منهم في الأساليب والوسائل، وهو أمر يقتضي التعمق في فهم التحديات الحضارية الأساسية التي تواجه الأمة، خاصة تحديات التخلف الحضاري الناتج عن التبعية والاستبداد والفساد، ومن ثم طرح خطاب يقوي المقاومة الحضارية ويحصن الأمة ضد الاستلاب والتغريب الذي يشكل الواقع بعيداً عن الشريعة بل وضدها أحياناً فيصعب من مهمة الخطاب في أداء رسالته، وهي صعوبة تزداد كلما اعتاد الناس على عادات وأفكار تتعارض مع الشرع وتتصادم معه أحياناً.

وعندئذ يتحول الخطاب الديني من التجنيد إلى التجديد الرشيد.

والله المستعان.

——

* المصدر: مجلة المجتمع.

[ica_orginalurl]

Similar Posts