العبادة -في مَفهوم الإسلام لها- لا تَعني فَقَط “الشَّعائِر التَّعبُّديَّة” مِن صَلاة وصيام وزَكاة وحَج .. إلخ، بل تَشمل كُل قَول أو فِعل يَقوم به الإنسان “قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ” (الأنعام:162)…

م. إسلام ماهر

سؤال

ما الحِكمة مِن عِبادة الله عَز وجَل وهو الغَني عن عِبادة العابِدين وطاعة الطَّائِعين؟

مِن بين الأسئلة الَّتي تَتَطرَّق إليها بَعض العُقول: الحِكمة مِن عِبادة الله عَز وجَل، ومَنْشأ هذا السُّؤال هو الإقرار بمَبدأ بَديهي؛ وهو أن الله غَني عن عِبادة العابِدين وطاعة الطَّائِعين، فلماذا أمَرَنا بعِبادته وطاعته، بل جَعل ذَلِك هو غاية الخَلق؟

و الجَواب أنَّه ما مِن شَك في أن الله غَني عن عِبادتنا ؛ يَقول تَعالى : “وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّة المَتِينُ[1] (الذاريات:56-58)، وفي هذا المَعنى يَقول نَبي الله مُوسى: “… إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ ومَن في الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ” (إبراهيم:8).

ما الحِكمة إذاً ؟

* العُبوديَّة صِفة مُلازِمة لنا

النُّقطة الأوَّلى الَّتي يَجب الاِنْتِباه إليها هي أن صِفَة العُبوديَّة مُلازِمة لنا قَسراً بحُكم أنَّنا مَخلوقين؛ فالكائِنات اِحْتاجت الخالِق في نَشأتها و وتَحتاج إليه في بَقائها، و وعلى ذَلِك فإن البَشر جَميعهم عَبيد لله شاءوا ذَلِك أو أبوا.

 غير أنَّه تَعالى مِن تَشريفه لبَني آدَم أن مَيَّزهم بالعَقل وأعطاهم الإرادة الحُرَّة في الإيمان أو الكُفر به “… فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…” (الكهف:29)، ومِن الطَّبيعي أن يَتحمَّل البَشَر نَتائِج اِخْتياراتهم في الآخِرة، لأن كُفرهم سَيَترتَّب عليه مَفاسِد وظُلم “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا” (الكهف:57) ، وإيمانهم سَيَترتَّب عليه مُجاهدة وصَبر “لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ” (آل عمران:186)

* العبادة هي الحُب

في كِتابه الجَواب الكافي لمَن سأل عن الدَّواء الشَّافي (الدَّاء والدَّواء) تَعرَّض ابن قَيِّم الجَوزيَّة إلى مَراتب الحُب، وكان مِن كَلامه ما يَلي:

” وخَاصِّيَّة التَّعَبُّد: الحُب مع الخُضُوع، والذُّل للمَحْبوب، فمَن أَحَب مَحْبُوباً وخَضَع لَه فقَد تَعَبَّد قَلبه لَه، بَل التَّعَبُّد آخِر مَراتِب الحُب ويُقال لَه التَّتيُّم أيضاً، ولهَذا كانت أشْرَف أحْوال العَبْد ومَقاماته في العُبُوديَّة، فلا مَنْزِل لَه أَشْرَف مِنها.”

“وهَذا أمر عَظِيم يَجب على اللَّبيب الاِعْتِناء به ، وهو أن كَمال اللَّذَّة والفَرَح والسُّرور ونَعيم القَلب وابتهاج الرُّوح تابع لأمرَين: أحدهما: كَمال المَحبوب في نَفسه وجَماله، وأنَّه أولى بإيثار المَحَبَّة مِن كُل ما سِواه ، والأمر الثَّاني: كَمال مَحَبَّته، واسْتِفْراغ الوُسْع في حُبِّه، وإيثار قُربه والوُصُول إليه عَلى كُل شَيءٍ، وكُل عاقِل يَعْلَم أنَّ اللَّذَّة بحُصُول المَحْبوب بحَسَب قُوَّة مَحَبَّته، فكُلَّما كَانت المَحَبَّة أَقوى كانَت لَذَّة المُحِب أَكْمل .. فَلَذَّة العَبْد مَن اشْتَد ظَمَؤُه بإدْراك الماء الزُّلال، ومَن اشْتَد جُوعُه بأَكْل الطَّعام الشَّهي، ونَظائِر ذَلِك عَلى حَسَب شَوْقه وشَدَّة إرادته ومَحَبَّته.”

* العبادة في مَفهومها الواسِع

العبادة -في مَفهوم الإسلام لها- لا تَعني فَقَط “الشَّعائِر التَّعبُّديَّة” مِن صَلاة وصيام وزَكاة وحَج .. إلخ، بل تَشمل كُل قَول أو فِعل يَقوم به الإنسان “قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ” (الأنعام:162)، بل فاجأ رَسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – الصَّحابة بقَوله: (وَفي بُضْع أَحَدِكُم صَدَقَة”. قالُوا : يا رَسُول الله ، أَيأْتي أَحَدُنا شَهْوَتَه يَكُون لَه فيها أَجْر؟ قال: ” أَرأَيتُم لَو وَضَعَها في الحَرام أَكان عَلَيه فيها وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِك إِذا وَضَعَها في الحَلال كان لَه فيها أَجْر) (رواه مسلم).

* التَّقوى تَتَحقَّق بالعبادة ويَترتَّب عليها الفَلاح

إذا تَدبَّرنا القُرآن وَجدنا أن عِلَّة العبادة تَحقيق التَّقوى، وغاية ذَلِك الفَلاح في الآخِرة. يَقول تَعالى :

يَا أَيهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة:21).

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ…” (العنكبوت:45).

يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة:183).

خُذْ مِنْ أَمْوَالهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا…” (التوبة:103)

يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (المائدة:35).

* السَّعادة والطُّمَأنينة تَتَحقَّقان بالعِبادة

كذَلِك فإن السَّعادة والطُّمَأنينة لا تَتَحقَّقان على الحَقيقة بغير عِبادة الله عَز وجَل والاِمْتِثال لأوامِره، وأنَّى يَجد المَرء السَّعادة والطُّمَأنينة وقد كَفَر بخالِقه وحاد عن طَريقه المُستقيم!

و الآيات في بَيان هذا الشَّأن كَثيرة؛ مِنها قَوله تَعالى “وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً…” (طه:124)، ونَقيض ذَلِك قَوله “الَّذين آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ” (الرعد:28)، ويَقول تَبارك وتَعالى “إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا المُصَلِّينَ” (المعارج:19).

* للعِبادة فَوائد أُخرى

قُلنا أن العِبادة تَكريماً وتَكليفاً مِن الله لبَني آدم، وتَبيَّن أنَّها المَحبَّة في أسْمى مَراتبها، وظَهَر لنا أن مَفهوم العِبادة أوسع مِن أن يُحصَر في نِطاق الشَّعائِر التَّعبُّديَّة، وأن التَّقوى الَّتي هي السَّبيل إلى الفَلاح في الآخِرَة لا تَتَحقَّق بغير العِبادة، بل إن السَّعادة والطُّمَأنينة في دُنيانا لا تَتَحقَّقان على الحَقيقة بدونها. ومع ذَلِك فإن للعِبادة فَوائد أُخرى.

سَنَقتصر في السُّطور التَّالية على ذِكر مِثال واحِد فَقَط ، وإن كانت نَظائِره كَثيرة:

إذا سَجَد الإنسان، يتَّجه الدَّم بفِعل الجاذبيَّة إلى رأسه، فتحتقن الشَّرايين، فإذا رَفَع رأسه يَنخفض الضَّغط فجأة مِن اِحْتِقانها، ومِن اِنْخِفاض الضَّغط فجأ، تَكتسب هذه الشَّرايين ، ولا سيَّما شَرايين المُخ، مرونةً عَجيبة.

في الرَّكعة الواحِدة يَخفض المؤمن رأسه ويَرفعها سِت مرَّات، وفي اليَوم يخفض رأسه ويرفعها في الفروض والسُّنن مئتين وسِت عَشَرة مَرَّة، وفي الشَّهر سِتَّة آلاف وأربعمئة وثَمانين مَرَّة .. هذا يَكفي لوقاية الإنسان مِن أمراض شَرايين المُخ ، ومِن الجلطة في المُخ ، ومِن اِنْفِجار أوعية المُخ.[2]

الهوامش:

[1] انظُر كَيف رَبَط تَعالى بين كَونه خَلَقنا لنَعبُده وبين كَونه غَني عن عِبادتنا

[2] مِن دَرس للشَّيخ مُحمَّد راتِب النَّابُلسي بعُنوان الفَوائد الصِّحيَّة للصَّلاة

[ica_orginalurl]

Similar Posts