هؤلاء لم ينقلبوا من علماء إلى مخرفين، بل وصلوا للإيمان بالله وبنبوة محمد عبر الاستقراء والاستنباط معًا. الإيمان ليس صعبًا إلى الدرجة التي يظنها الملحد، وليس يعني أن عقله الصغير – وعقولنا كلها صغيرة – ينبغي أن يدرك كل صغيرة وكبيرة وإلا يكون مقلدًا…

منى زيتون

الاستقراء والاستنباط

من المشاكل الرئيسية التي تظهر عند المناظرات مع الملاحدة أن يرفض أحدهم الانصياع عند إقامة الحجة عليه.

من أكثر تعريفات التفكير التي أراها معبرة، على بساطتها، هو تعريف التفكير على أنه: «انطلاق من المعلوم إلى المجهول»؛ لأنه دون معلومات أولية كافية سيكون التفكير مشوشًا للغاية، ولن يصل صاحبه إلى استنتاجات ‏صحيحة. ولكن هناك في المقابل من المُسطّحين فكريًا من يبالغ في أهمية استخدام المعلومات دون وعي، بل تتسبب له محاولاته لمناقشة ما يلزم وما لا يلزم إلى تشوش فكري أكبر من تشوش من يعاني ندرة المعلومات. فإن أضفنا إلى ذلك عدم التعمق وقشورية هذا العلم، فنحن أمام قضية أعقد.

ينقسم الاستدلال العقلي إلى قسمين رئيسيين، هما: الاستقراء والاستنباط؛ إذ يرتبطان بإقامة الحجج العقلية، وكلاهما يوصلانا إلى استنتاجات، لكن لكل منهما منهج يختلف عن الآخر. فالتفكير الاستنباطي ينقلنا من العام إلى الخاص؛ بمعنى أن الاستنتاج الذي نتوصل إليه نتيجة القياس المنطقي أقل عمومية من المقدمة الكبرى التي انطلقنا منها، وعلى العكس منه فإن آلية الاستدلال في التفكير الاستقرائي تنقلنا من الجزئيات إلى استنتاج عام.

ما يعنينا الحديث عنه الآن هو التفكير الاستقرائي؛ كونه أشد ارتباطًا بمناقشة الحجج العقلية المتعلقة بقضية الإيمان بوجود خالق للكون. والمفترض في الاستقراء أن أصل من خلال مشاهدات وملاحظات إلى استنتاج أعم من حدود المعلومات التي توصلت إليها من خلال تلك الملاحظات؛ بالتالي فإن من أهم أساسيات الاستقراء الناجح: تحديد المعلومات المتعلقة بالموضوع، وتحديد العلاقة السببية من خلال فهم السبب والمسبب. وطالما لم نُحمِّل المعلومات التي اعتمدنا عليها للوصول إلى الاستنتاج أكثر مما تحتمل فإنه يمكن الوثوق في الاستنتاج الذي توصلنا إليه، أما إن كان استنتاجنا متوسعًا في التعميم استنادًا لمعلومات غير كافية أو العلاقة السببية فيها غير واضحة، فإن أقصى ما يمكن وصف هذا الاستنتاج به أنه ربما يكون صحيحًا. وهنا تجدر بي الإشارة إلى أنه في قضايا الإيمان الكبرى؛ كقضية الإيمان بوجود خالق للكون، أو صحة شريعة ما دونًا عن باقي الشرائع، فإن أي تشكك في كون تلك النتيجة لا بد وأن تكون صحيحة، هو طعن في صميم الإيمان ذاته، لا يستقيم معه.

مناهج الاستقراء والاستنباط.. يدعيها الملحدون ويكفرون بها!

ومن المشاكل الرئيسية التي تظهر عند المناظرات مع الملاحدة أن يرفض أحدهم الانصياع عند إقامة الحجة عليه، ويحاول الزوغان تشكيكًا في صحة المنهج الاستقرائي ذاته، محاولًا إضافة معلومات غير مرتبطة بالمعلومة التي تم الاستقراء على أساسها، للتدليل على فساد الاستنتاج الذي توصل إليه المؤمن؛ من حتمية وجود خالق للكون.

 باختصار؛ هو لا يميز بين نتيجة لا بد أن تكون صحيحة، ونتيجة ربما تكون صحيحة وبحاجة لمزيد من المعلومات لتدعمها. الملحد يوهم نفسه بأن الاستقراء كي يكون سليمًا لا بد أن يستفرغ كل ما يُثار من معلومات تتصل بالشبهات التي يطرحونها؛ فيظل ينتقل أفقيًا من شبهة إلى أخرى، رافضًا التسليم بأن المعلومات المتوفرة من القضية (أ) وحدها كافية للاستنتاج بوجود إله خالق للكون، وبدلًا من الانتقال رأسيًا من (أ) إلى الاستنتاج، فإنه ينتقل إلى (ب) ثم (ج) ثم (د) ثم…

بالتالي فإن سياق المناظرة يتلخص في أن الملحد يوهم نفسه بأنه يُعمل عقله ويفكر تفكيرًا منطقيًا؛ بفحص جميع الشبهات التي ينشرها لإثبات صحة استنتاجه بعدم وجود إله، فيناقش دومًا قضايا فرعية تشغيبًا بدلًا من الانشغال بالاستقراء حول القضية الرئيسية، التي يتهرب من مناقشتها حذرًا من الوصول إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه؛ فينصبّ حديثهم عن التسامح والأطفال التي تموت والدعاء الذي لا يُستجاب، تاركين المعلومات والقوانين والثوابت الكونية القاطعة بوجود خالق. المؤمن في المقابل يعطيه معلومات حول تلك القوانين والثوابت الكونية، من المفترض على كل من يفكر تفكيرًا منطقيًا أن تقوده إلى استنتاج محسوم قاطع بأنه لا بد من خالق للكون، لافتًا الملحد أن كل ما يثيره في المقابل من شبهات فرعية مردود عليها.

ومن أشهر المأثورات عن العارفين بالله، قول أحدهم «من يبحث عن الحقيقة يكفيه دليل، وهناك من لا يكفيه ألف دليل». فالمعاند يُصور لنفسه أن الاستقراء لا يكون صحيحًا إلا إن كان تامًا!!، بينما المنطق يخبرنا أن الاستقراء لا يلزم أن يكون تامًا كي يحسم الإنسان أمره بصحة الاستنتاج الذي وصل إليه، فعند نقطة معينة من البحث يصل الإنسان إلى اليقين.

والمؤمن في المقابل عندما يصل بالاستقراء إلى نتيجة أن للكون خالقًا، يستخدم تلك النتيجة كمقدمة كبرى يستنبط من خلالها صحة قضايا إيمانية جزئية، ويلزم نفسه بكل ما أمره الله حتى وإن لم يفهم الحكمة من ورائه.

كمثال بسيط على الكيفية التي يعمل بها الاستقراء والاستنباط معًا لدى المؤمن. لو أن طفلًا صغيرًا شاهد أباه خارجًا في الصباح يرتدي بذلة معينة وكرافتة معينة وحذاء معينًا، وعندما عاد من المدرسة وخلع حذاءه وجد حذاء أبيه الذي كان قد ارتداه في الصباح في الجزّامة فهذه ملاحظة، تقوده تلك الملاحظة بالاستقراء مباشرة إلى الاستنتاج بأن أباه قد عاد إلى البيت رغم أنه لم ير أباه بعد، ولكنه استدل على تلك النتيجة من معلومة وجود الحذاء، واعتقادًا في وجود أبيه، فهذا يقوده إلى الاقتناع بأنه من المؤكد أن البذلة والكرافتة أيضًا موجودتان.

وما يُقال عن التصديق بوجود خالق، يُقال مثله فيما يخص الشرائع؛ لذلك نسمع ونقرأ كثيرًا عن عالم كبير. ليس رجلًا تافهًا لا يُعمل عقله، بل إنما كان يدرس القرآن بحثًا فيه عما يجعله ينكر أنه موحى به، وينكر بالتالي نبوة محمد، كذلك الذي استوقفته آية “بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِيَ بَنَانَهُ” (القيامة: 4)، والآخر الذي آمن بعد اكتشاف سر المادة التي تحافظ على حيوية جسم الإنسان والموجودة فقط في التين والزيتون بنفس النسبة التي ذكر فيها التين والزيتون في القرآن 1: 7، وغيرهم كثيرون.

هؤلاء لم ينقلبوا من علماء إلى مخرفين، بل وصلوا للإيمان بالله وبنبوة محمد عبر الاستقراء والاستنباط معًا. الإيمان ليس صعبًا إلى الدرجة التي يظنها الملحد، وليس يعني أن عقله الصغير – وعقولنا كلها صغيرة – ينبغي أن يدرك كل صغيرة وكبيرة وإلا يكون مقلدًا.

_____________________________________

المصدر: موقع ساسة بوست http://www.sasapost.com/opinion/55-atheism-and-full-induction/

[ica_orginalurl]

Similar Posts