عبير محمد الجفير

نظر الإسلام للإنسان على أنه مكوَّنٌ من الجسم والروح والعقل والنفس والقلب، وهذا التكوين للذات الإنسانية ليس تكوينًا مستقلًّا كلُّ مكون عن الآخر، وإنما هو تكوين شامل في إطار هذه النظرة الشمولية المتكاملة للطبيعة الإنسانية[2]، فالجسم هو الجزء المادي في الإنسان بما يحتويه من رغبات وانفعالات وشهوات، ومن هذا المنطلق يأكل ويشرب ويتزوج؛ وذلك خضوعًا للفطرة التي أودعها الله في الأشياء؛ لذلك ينبغي العناية به حتى يساعد المرء على القيام بوظائفه[3].

والإنسان كرمه الله وميزه على سائر خلقه بالعقل، الذي هو مناط التكليف، والأديان السماوية في مجملها تدعو إلى عبادة الواحد الأحد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن بالغَ بعض أتباع الديانات الأخرى في الاهتمام بالروح وأهملوا الجسد، أما الدين الإسلامي فهو يدعو إلي تحقيق التوازن الطبيعي في الإنسان بين الروح والبدن، والعمل على تنمية كل منهما بالأسلوب الصحيح، وعلى هدًى من القرآن الكريم؛ حتى يتخلق الإنسان المسلم بخلق القرآن، وتتحقق رفاهية المجتمع.

وينظر الإسلام إلى الإنسان نظرةً متكاملة، فالإنسان فيه جسد وروح، لا ينفصل أحدهما عن صاحبه، وفيه – بحكم تركيبه الجسدي – مجموعة من الشهوات تدفعه نحو عمليات الإشباع، وبحكم تكوينه الروحي مجموعة من القوى تسمو به نحو الكمالات، وهو بحكم تكوينه العقلي فيه قدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك، أو يجمع بينهما في صورة لا يضحِّي فيها بجسده من أجل روحه، ولا بروحه من أجل جسده، والتضحية بأحدهما لا يتحقق معها الاستخلاف في الأرض، وقد خلقه الله؛ ليكون فيها خليفة[4]؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].

ومن ثَمَّ فضَّل الإسلام الإنسان وميَّزه وأعلى شأنه ومكانته على ما في الكون من مخلوقات، وجعل له خصائص وميزات فهو الكائن العاقل، القادر، المكلَّف، وهذا التكريم والتفضيل مبني على أسسٍ أوَّلُها الإيمان بالله وعبادته وتقواه، والعلم من أهم الخصائص التي خص الله بها الإنسان منذ خلقه؛ قال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، ولعِلْمِ الإنسان وعقله حمَّل الله تعالى الإنسان الأمانة على سائر مخلوقاته؛ تكريمًا له وتمييزًا؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، وهذا مظهر من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان الذي خلقه الله عز وجل، فسوَّاه فعدَّله وصوَّره في أحسن صورة، وفضله على سائر خلقه، وحمَّله أمانته، وسخر له من فضلِهِ كلَّ شيء حوله، واستخلفه واصطفاه لعبادته.

عوامل التفاوت بين بني الإنسان

وأيضًا يتمايز ويتفاوت البشر لعوامل تؤثر فيهم، وقد حدد الإسلام موقفه من تلك العوامل حتى يصبح تأثيرها إيجابيًّا، فالشخصية الإنسانية تتأثر في تكوينها ومركباتها وتفاعلاتها المختلفة بعاملين رئيسين: أحدهما داخليٌّ يمكن تسميته “الوراثة”، والآخر خارجيٌّ مكتسب يسمى “البيئة”[5]، وقد أَوْلَى الإسلام البيئةَ التي يعيش فيها الإنسان اهتمامًا بالغًا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاءَ؟)) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30][6].

ومن أهم العوامل المؤثرة في الطبيعة الإنسانية الدوافع والحاجات، وهي حاجات أساسية في حياة الإنسان، وأُوْلَى تلك الدوافع الحاجات العضوية والجسمية، فإذا أُشبعت انتقل إلى الحاجات الأمنية، وقد وجَّه الإسلام إشباع هذه الدوافع والحاجات بضوابط؛ لكي لا تنحرف عن فطرتها وتؤدي إلى فساد وانحطاط، وجعل لهذه الدوافع ضوابط؛ منها ما هو ذاتي نابع من قلب الإنسان وضميره ووازعه الديني العقدي الذي يحدد حدود الحلال والحرام، ومنها ضوابط خارجية نابعة من البيئة المحيطة بالإنسان، واهتم الإسلام بتهذيب الإنسان واستقامته، وشرع أحكام رادعة للمتجاوزين حدودَ الشريعة برغباتهم وميولهم.

وقد بلغ من كمال التشريع وعمومه أن كل فعل من أفعال المسلمين لا يخلو من حكم شرعي سواء بالوجوب أو الحرمة أو الندب أو الإباحة، وقد أودع الله تعالى في الطبيعة البشرية استعدادًا لمعرفة الخير والشر، والقدرة على السير في أي منهما؛ قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]، ففي أصل الانسان الخير، لكن الشر عارض من خطأ أو جهل أو من البيئة المحيطة به، فإذا وُجِّهت توجيهًا إسلاميًّا إلى أهدافها أصبحت خيِّرةً، فالإنسان كما يقرر الإسلام ملزم فيما هو خارج عن إرادته وداخل في إرادة الله، ومخيَّر فيما دون ذلك ومسؤول عن اختياره وطريقه الذي يسلكه.

وبِناءً على ذلك يتبين لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة راقية فيها تكريم وتعظيم وشمول، وأنه رسم له حدودًا تمكِّنه من بلوغ غاياته وإشباع حاجاته في مجالات شتى.

* من موقع “الألوكة”.

—–

[1]  للكاتبة: عبير محمد الجفير، باحثة دكتوراة تخصص الأصول الإسلامية للتربية، جامعة أم القرى، كلية التربية، قسم التربية الإسلامية والمقارنة.

[2]  مرسي، محروس سيد، التربية والطبيعة الإنسانية في الفكر الإسلامي وبعض الفلسفات الغربية، 1988، القاهرة، دار المعارف.

[3]  أبو العينين، الخليل، فلسفة التربية في القرآن الكريم، 1985، ط: 2، القاهرة، دار الفكر العربي، 99.

[4]  نظرة التربية الإسلامية إلى الإنسان على شبكة الألوكة.

[5]  الميمان، بدرية، النظرية التربوية وتطبيقاتها عبر العصور، ط: 1، 1435.

[6]  البخاري، صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلَّى عليه، حديث رقم: (1270).

[opic_orginalurl]

Similar Posts