رحلة البحث عن الإله

منذ أول لحظة فى بدء الخليقة بدأ الصراع النفسى لدى الإنسان للإجابات عن أسئلة كثيرة كان فى مقدمتها: ما هذا الكون؟ ومن خلقه؟ ولما أنا فيه؟ وكيف جئت إليه؟

“قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّـهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾”. (4:112).

بدأ الإنسان الذى زوده الله بإمكانات كثيرة من عقل وجسد وموارد طبيعية من حوله يتحسس الكون ليجيب عن هذه التساؤلات من حوله، فاشتق بعض البشر طبيعة الإله والنظرة إليه من طبيعة الكون لما رأوا فيه من قوة وأثر(من ظهور وخفاء وحركة وحجم إلى غير ذلك). وظهر هذا فى الثقافات اليونانية والرومانية والهندية وغيرها واختلط مفهوم الإله بالأساطير والخرافات.

ونظر بعضهم الآخر إلى نفسه فرأى أنه سيد الكون وأن هذا الكون لا حاجة له إلى إله فمال إلى الإلحاد.

نور النبوة والرسالة

ظلت هذه الحال إلى أن جاء نور النبوة وأرسل الإله الرسل ليعرف نفسه للبشرية وينقذها من الضلالة ويجيب عن تلك الأسئلة.

وإزاء هذه التجربة الجديدة للإنسان وقفت البشرية من الأنبياء مواقف عدة: فمنهم من لم يجب الرسل ولم يأبه بما جاءت به ورفض الحق وعاند. ومنهم من أجاب وأعمل ما آتاه الله من إمكانات عقلية فى معرفة الحق.

ولقد عانت الرسل فى طريق الدعوة إلى توحيد الله من معوقات استجابة البشر للدعوة من حيث اتباع الآباء والأجداد والتقاليد والأعراف والأخلاق النفسية الرديئة من الكبرياء وبطر الحق.

رسالة الإسلام وأهل الكتاب (اليهود والمسيحيون)

ظهر النبى-محمد صلى الله عليه وسلم- وأهل الكتاب من اليهود والنصارى (المسيحيين) على عقائدهم مستمسكين بها كما تناقلوها عن آبائهم يرسخ تلك العقائد الحكام ورجال الدين من القساوسة والرهبان والأحبار فى قلوب العامة والخاصة ولا يسمح لأحد أن يتفكر فيها أو يعارض شيئا مما جاء فيها.

فبدأ النبى محمد-صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى الله الواحد الأحد ويتلوا عليهم قول الله تعالى فى القرآن، فى صفة ربه:

“قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّـهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾”. (4:112).

استولت الأعراف وتقاليد الآباء والأجداد على المدعوين من أهل الوثن فصاروا يبررون الانحراف بقولهم: 

“إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ “.(23:43)

أما أهل الكتاب (اليهود والنصارى [المسيحيين]) فتابعت العوام الخواص من رجال الدين من الكهنة والأحبار والملوك وتكبرت خاصتهم أن تقبل الحق مع علمهم ببشارة كتبهم بمجىء النبى صلى الله عليه وسلم وظهوره بعد عيسى عليه السلام مصدقا لرسالته. وقد سجل القرآن موقفهم:

” يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ” (70:3).

لجأ القرآن إلى المقدمات العقلية بلفت نظرهم إلى التدبر فى الكون والمخلوقات وحال الأمم السابقة ونفور العقول القويمة عن الشرك فى الألوهية للخالق، ومن ذلك قول يوسف عليه السلام:

“يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ “.(39:12)،

 وقول الله-سبحانه-:

“لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ”

وقوله:

“قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّـهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّـهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ”.(16:13)

و بدأ مع القرآن مع أهل الكتاب حوار هادىء ومحبب إلى القلوب من تسميتهم بأهل الكتاب لجذب الانتباه إلى ما بأيديهم من خير يميزهم عن أهل الوثن والإلحاد.

وأبرز القرآن العلاقة بين القرآن وكتبهم وأنه ما جاء إلا مصدقا لها ومهيمنا عليها بمعنى أنه يبين ما جاء فيها من انحراف وميل عن الصواب. قال الله تعالى:

 “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ”.(48:5)

النظرة النصرانية للإله

وبين القرآن الأخطاء الجسيمة التى وقع فيها أهل الكتاب من اليهود والنصارى (المسيحيين) فى نظرتهم إلى الإله:

“لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ  وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ  إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ  وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴿٧٢﴾ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ  وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ  وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ “.(73:5)

وأبان الإله الحق وأنه الله الواحد فى ألوهيته وربوبيته وصفاته وقيوميته الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، وأنه الخالق الرازق الذى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ولقد أثارت هذه الدلائل عقول أولى الألباب والنظر، فجذبتهم إلى الحق فآمنوا بالله. وكان منهم من تبوأ المكانات العلمية عند أهل الكتاب على عهد النبى- صلى الله عليه وسلم- كعبدالله بن سلام وغيره. وعاند من عاند ليمد الله لهم فى الضلال، مصداقا لقوله فى القرآن:

“قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا”.(75:19).

لقد دعا المسيح عليه السلام إلى عبادة الله وتوحيده وإفراده وحده بالعبادة وأنكر على من غالوا فى شخصه. قال الله-سبحانه وتعالى على لسان عيسى عليه السلام:

“قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا” (30:19).

 وأبان القرآن الكريم أن الخلاف قد اشتد بين أتباعه بعد موته وانهم تفرقوا أحزابا فى أمره:

“فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ”. (37:19)

ورغم ما أصاب الإنجيل من تحريف لهذه الرسالة التوحيدية الخالصة، فلا تزال بعض كلماته تنطق ببعض الحق ومنها:

“اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا هو الرب الأحد …إن الله واحد لا إله سواه” .(سفر التثنية، 6/4).

ولقد ظلت تعاليم المسيح فى مسيرتها التاريخية بعد موته تنالها أيادى التحريف والتغيير والتبديل ودبت الفرقة بين المسيحيين وتفرقوا فرقا عدة وحدث الاختلاف بينهم فى طبيعة الإله واستقر مذهبهم جميعا على التثليث باختلاف فى مفهومه وكيفيته.

فاختلفوا فى طبيعة المسيح: هل طبيعته طبيعة واحدة لأنه إله أم إن له طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسية لأنه ابن الله وابن الإنسان معا (فقد جاء من مريم، ومريم من البشر)، فيكون بذلك قد اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت.

انفصلت الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر والحبشة، والكنيستان الأرثوذكسيتان الأرمنية والسريانية عن بقية الكنائس لقولها بالطبيعة الواحدة للمسيح (طبيعة واحدة إلهية)، وانفصلت الكنيسة المارونية بلبنان عن بقية الكنائس لقولها بالمشيئة الواحدة أى أن المسيح وإن كان له طبيعتان ليست له إلا مشيئة واحدة هى المشيئة الإلهي، وأن من عدا هؤلاء وأولئك من طوائف المسيحيين يقولون بالطبيعتين والمشيئتين وهم القسم الأكبر من المسيحيين.

واختلفوا فى الاقنوم الذى انبثق منه روح القدس أهو الأب وحده أم الأب والابن معا. وانقسموا لذلك إلى كنيستين: الكنيسة الشرقية اليونانية أو كنيسة الروم الأرثوذكس التى يقول أتباعها بانبثاق روح القدس عن الأب وحده، والكنيسة الغربية اللاتينية التى يقول أتباعها بانبثاق روح القدس عن الأب والابن معا. (انظر: الأسفار المقدسة فى الأديان السابقة للإسلام، د. على عبد الواحد وافى، ص ص 136-137).

خاتمة

حاول هذا المقال استكشاف طبيعة الإله بين النصرانية والإسلام ونظرة الديانتين إليه وبيان أقربها إلى الصواب.

ويلاحظ القارىء اختلاف نظرة الإسلام التوحيدية عن النظرة المسيحية إليه فى الأصول التى بنى عليها الفريقان ذاتية الإله. وجاءت هذه الاختلافات فى أوجه عدة.

انطلق الإسلام فى نظرته للإله من قدسية الإله التى تقتضى تنزيهه عن كل نقص وإفراده بالعبودية وتنزيهه عن الولد والزوجة أو الشرك بوجه عام، متوافقة مع التفكير العقلى المنطقى القويم، بينما جاءت الوجهة المسيحية (التى انحرفت عن تعاليم المسيح) بوجهات متناقضة متضاربة تنفر منها العقول السليمة السوية.

[opic_orginalurl]

Similar Posts