حذر الله سبحانه في مواضع متعددة من كتابه الكريم من الفساد في الأرض.. والفساد البيئي جزء من هذا الفساد في الأرض بل هو أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المقام…

(مقتطف من المقال)

أ.د. مجاهد أبو المجد

الأرض

حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على تشجيع الزراعة بما يزيد الثروة النباتية ويضيف إلى البيئة الصالحة.

تحتل البيئة في عصرنا الحاضر، مكانة لا تكاد تُدانيها مكانة، من حيث تأثيرها على صحة الفرد والمجتمع، اللهم إلا أنماط الحياة التي يعتنقها الإنسان والسلوكيات التي يتبعها في حياته.

ومن أجل ذلك اهتمت منظمة الصحة العالمية منذ تأسيسها بموضوع الصحة والبيئة، وأفردت له حيزاً كبيراً من اهتماماتها، وأنشأت له برنامجاً خاصاً يضم عديداً من كبار الخبراء في مختلفة جوانب هذا الميدان المهم من ميادين الصحة.

وليس يخفى أن البيئة التي احتضنت الإنسان يوم خلق في هذه الأرض، كانت بيئة حفية به، حانية عليه، رفيقة بصحته.. وليس يخفى أن شرع الله الذي جاء لهداية الناس إلى خيرهم في دُنياهم وأُخراهم، يمثل خير ضامن لإحجام الناس عن تدمير بيئتهم، والإضرار البليغ بأنفسهم وبإخوانهم في الإنسانية بل وبأشكال الحياة كلها من حيوان ونبات وغير ذلك من الأحياء.

وحماية صحة البيئة تطبيق لقاعدة إسلامية رئيسية وهي أن كل مسلم مسئول عن سلامة جماعة المسلمين تطبيقا للقاعدة التي وضعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنها كالجسد الواحد، وأن من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. وهذه الحماية تلزم المسلم ألا يكون مصدر ضرر للبيئة.

روى أبو داود حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (اتقوا الملاعن الثلاثة. البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)، وروى الترمذي-عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب، الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود).

وقد دعا الإسلام إلى الوقاية من الأمراض الانتقالية بعزل المريض عن الأصحاء، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يوردن ممرض على مصح).

الوقاية من الحوادث:

وضع الإسلام القواعد الأساسية للوقاية من الحوادث قبل أن يظهر علم السلامة ويتبلور في إجراءات محددة في مجالات الصناعة وحوادث الطرق وحوادث المنازل. فالإسلام يكره التواكل ولكنه يأمر باتخاذ الأسباب الدنيوية ثم بعد ذلك بالتوكل على الله. يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا” (النساء:71). وروى ابن حبان والطبراني أن أعرابيا سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هل يترك ناقته دون أن يربطها توكلا على الله تعالى فقال له النبي عليه الصلاة والسلام. (اعقلها وتوكل).

وعلم السلامة يقوم على مبدأ أساسي وهو أن لكل حادثة سببا وبتجنب الأسباب يمكن تجنب الحوادث. روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون).

تلويث الماء والغذاء من المحرمات

كما يحرم النبي (صلى الله عليه وسلم) تلويث الغذاء والماء بمفرغات البدن التي تحمل الجراثيم وتنقل العدوى، فمن مفاهيم الطب الوقائي في الطب النبوي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بالوقاية من البلهارسيا قبل أن تعرف البشرية هذا المرض الخطير بمئات السنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه).

وفي، هذا الحديث حارب النبي صلى الله عليه وسلم البلهارسيا وغيرها من الأمراض، ذلك أن الماء الراكد إذا بال فيه الإنسان وخاصة إذا كان مصابا بمرض ما ينقل العدوى إلى سواه. وفي قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) حكمة نبوية طبية جليلة القدر وهي أن الماء الجاري نقل فيه العدوى إن لم تنعدم.

الفساد البيئي والإفساد في الأرض

ولقد حذر الله سبحانه في مواضع متعددة من كتابه الكريم من الفساد في الأرض.. والفساد البيئي جزء من هذا الفساد في الأرض بل هو أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المقام. فقد قال عز من قائل: “كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرضِ مُفْسِدِينَ” (البقرة:60) وقال جل شأنه: “… وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا…” (الأعراف:85) وقال سبحانه: “وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص:77). وقد نهى كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقوامهم عن الفساد في الأرض.

بل قد خص الله بالذكر ذلك النوع من الفساد الذي يستأصل النبات والحيوان فقال: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ” (البقرة: 205) .

قال الإمام ابن حزم في المحلى محتجاً بهذه الآية: فمنع الحيوان ما لا معاش له إلا به من علف أو رعي، وترك سقي شجر الثمر والزرع حتى يهلكا، هو بنص كلام الله تعالى فساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل، والله تعالى لا يحب هذا العمل.

وقد حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على تشجيع الزراعة بما يزيد الثروة النباتية ويضيف إلى البيئة الصالحة فقال: (لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كان له صدقة)( رواه مسلم عن جابر)، وقال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له). ونهى في مقابل ذلك نهياً شديداً عن قطع الشجر فقال: (من قطع سدرة -يعني دون مبرر- صوب الله رأسه في النار !) ( رواه أبو داود).

وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) أول من أنشأ محميات بيئية لا يجوز قطع شجرها ولا قتل حيوانها. فقد حمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كل ناحية من المدينة بريداً بريداً (والبريد اثنا عشر ميلاً ): لا يخبط (ينزع) شجره، ولا يعضد (يقطع)،إلا ما يساق به الجمل) (رواه أبو داود عن عدي، بن زيد). ولا يخفى ما للتشجير والخضرة من آثار هامة لحفظ التوازن البيئي وتوفير المناخ الملائم للحياة حيث تقوم النباتات بعملية التمثيل الضوئي فتوفر الأكسيجين اللازم لتنفس الإنسان والحيوان وتخلص البيئة من ثاني أكسيد الكربون فتأمل الإعجاز في ذلك!

الاهتمام باستزراع النباتات وحمايتها لم يكن وليد العصر، ولا من محدثات الزمن، بل دعا إليه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً فقد كان الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم يرغب أصحابه ويدعوهم إلى استزراع النباتات وحمايتها والمحافظة عليها، ومن أحاديث الرسول في هذا المجال: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرا أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) (رواه مسلم والبخاري والترمذي).

وكانت الأوامر تصدر صريحة إلى قواد المسلمين تنهاهم عن قطع الأشجار أو تدميرها وضرورة المحافظة عليها كما أعطي الإسلام لولي الأمر الحق في إقامة الحِمي (المحميات الحيوية) إذا كان ذلك في صالح المسلمين، وقد أدرك العالم الغربي في السبعينات من القرن العشرين أهمية المحمية الحيوية في حماية البيئة الحيوية، وهي الدعوة التي تبناها الإسلام منذ اربعة عشر قرنا ً.

هذه الأحاديث النبوية الشريفة دعوة صريحة تربي فينا السلوكيات البيئية الإيجابية نحو التخضير ونشر الخضرة في كل مكان.

ومما يجدر ذكره أن حسن استخدام الطريق ومنع الأذي والضرر عنه قد كفله الإسلام وشدد عليه ورغب فيه انطلاقاً من أحاديث الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه، وقال: (الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبه أدناها إماطة الأذى عن الطريق)، (من أماط أذي عن طريق المسلمين كتبت له حسنة) رواه البخاري والطبراني.

 من هذه الأحاديث النبوية الشريفة يتضح لنا أن إماطة الأذى بكل أشكاله المادية والمعنوية عن الطريق عبادة وفرض عين على كل مسلم فالأذى هنا يشمل كل ما يضر بالطريق ويشوه جماله ونظافته أو يتسبب في وقوع حوادث الطرق أو الإرباك المروري أو غيرها من الأضرار التي تلحق بالطريق ومستخدميه فمثلاً إلقاء الزجاجات الفارغة والمخلفات من أوراق وغيرها في الطريق يعتبر نوعاً من الأذى إشغال أرصفه الطرقات، وهي المخصصة للمشاة بما يحول دون استخدامها فيه أذي وضرر لأن هذا الأمر قد يجبر المشاة أن يسيروا في عرض الطريق مما يعرضهم للحوادث كما أن عدم الالتزام بتعاليم وقواعد المرور مما يتسبب في وقوع حوادث مرورية يتأثر بها أناس أبرياء يعتبر أذى فالسائق الذي يسير بسرعة جنونية غير عابئاً بما تحدثه هذه السرعة من وقوع حوادث، كثيرا ما تكون مميته، يرتكب مخالفة قانونية وشرعية في حق نفسه وحق الآخرين فالسرعة الجنونية دعوة للتهلكة والله ينهانا عن إلقاء أنفسنا في التهلكة يقول الحق تبارك وتعالى: “وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة” (البقرة:19) كما أن هذه السرعة الجنونية فيها إسراف شديد على النفس حيث يسيء استخدام نفسه والسيارة التي يمتلكها معاً ويقتضي واجب الملكية في الإسلام كما سبق أن بينا حسن استخدامها وصيانتها وصلاحها كما يدعونا الإسلام إلى الاعتدال في السرعة يقول الحق تبارك وتعالى: “وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ”  (لقمان:19).

لا ضرر ولا ضرار:

هذه العبارة الجامعة الفذة حديث شريف رواه الدار قطني عن أبي سعيد الخدرى، وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وهي مؤكدة بصيغ أخرى كقوله صلى الله عليه وسلم: (ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به) رواه الترمذي، وقوله: (من ضار أضر الله به) رواه ابن ماجة.

ولعل أجمل ما ورد في تعريف الضرر و الضرار، ما ذكره السيد رشيد رضا رحمه الله في تفسير سورة المائدة: أي: (رفع الضرر الفردي والمشترك) ومنه أخذت قاعدة دفع المفاسد وحفظ المصالح مع مراعاة ما علم من نصوص الشارع ومقاصده.

وقد جاء تحريم الضرر في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى سورة الأعراف (33) “قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ” وقوله في سورة الأنعام (120) “وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَه“ُ مع قوله سبحانه في سورة البقرة (219) عن الخمر والميسر: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا” فجعل الإثم نقيض النفع فهو الضرر إذن، وهو- كما نرى- محرم بنص القرآن، لا يحل للمسلم أن يضر بنفسه أو يضار بغيره. وذلك في كتاب الله كثير.

فلننظر الآن كيف يتجلى هذا المبدأ في شؤون الصحة:

حفظ صحة البيئة فيه سلامة المجتمع وحماية لأمة المسلمين من الضرر وإعلاء لكلمة الله، ومن هنا نلاحظ أن الأحاديث الشريفة تتناول جوانب الوقاية والحماية بدرجة تكون أقرب إلى الأمر والإلزام.

وكلما كانت الحماية مرتبطة بالمقاصد الخمس التي جاءت بها الشريعة كانت درجة الإلزام أكبر. فالإسلام يأمر الفرد بالابتعاد عن موطن الوباء ولكن وقاية المجتمع المسلم من انتشار الوباء تعلو على مصلحة الفرد الواحد وبذلك تصير التضحية بالنفس في سبيل سلامة المجتمع شهادة في سبيل الله.


المصدر/ بتصرف كبير عن موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

[ica_orginalurl]

Similar Posts