طه سليمان عامر*

لم يأتِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام ليعلن الحرب على أعرافِ وعاداتِ المجتمعاتِ الإنسانيةِ وما تواطأَ عليه الناسُ واستحسنته عقولهم، وانعقدتْ عليه أمور معاشهم، واستقروا عليه في معاملاتهم وشؤونهم العامة والخاصة وأصبح عنصراً من تكوينهم وركيزة من ركائز حياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية.راعى الإسلام في تشريعاته أحوال الناس

ذلك لأن رسالته -صلى الله عليه وسلم- جاءت وقد تجاوزت البشرية مرحلة الطفولة، وأصبح لديها من مواريث النبوات، ورصيد من الفطرة السليمة ما يُؤسس عليه، لا أن يبدأ البناء من قواعده، ويوم شرَّق الإسلام وغرَّب في أصقاع الدنيا اعترف بالاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري وحافظ على تراث الأمم والشعوب التي حكمها قروناً وأعماراً متطاولة، واحتفظت تلك البلاد بلهَجَاتها ولغاتها وعاداتها في المأكل والملبس والمشرب والمعاملات، إلا قليلا مما دعا الإسلام إلى ضبطه أو إلغائه.

كيف تعامل الإسلام مع أعراف المجتمع الجاهلي؟

يوم أعلن الإسلام عن منهجه في الحياة نظر في أحوال الناس وعوائدهم وسبل تنظيم حياتهم في أوجهها المختلفة، فوجد القوم يسلكون مسالك عديدة، فيها الصالح وفيها ما هو ظاهر الفساد، ومنها ما احتاج إلى قليل من التهذيب والإكمال والتوجيه، وهكذا يرسى الإسلام قاعدة {الميزان} الدقيق في التعامل مع الناس والقيم والأفكار.

أعراف إنسانية كساها الإسلام ثوب الربانية

تَعَارَف العرب قبل الإسلام على أخلاقٍ وآدابٍ وسلوكياتٍ كانت محل إعجاب وفَخَار، فما فتئ العربي يبذل ماله إكراما لضيف حل بأرضه ولو جَهِلَه، وذهبوا في ذلك مضرب الأمثال، ولك أن تتحدث عن أنبل الأخلاق مثل: “خُلُق الجوار ” حيث لا يُضام من استجار بهم، ولو كان ظاهر العداوة، وفي سبيل حفظ المستجير تذهب النفس والمال. وقد حفظ لنا التاريخ من ذلك المآثر العظام/ مثال حاتم الطائي في الكرم / والسموءل في الوفاء، والأحنف بن قيس في الحلم. وقد عامل الرسول صلى الله عليه وسلم سفانة بنت حاتم الطائي معاملة حفظ فيها صنائع معروف والدها الراحل، فقال: أكرموها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق .

وما أرْفَع درجة عنترة في سُلَّم الأخلاق حينما تاق الرسول صلى الله عليه وسلم لرؤيته، فقال: ما نُعتَ لي رجلٌ من العرب فأحببت أن أراه إلا عنترة، تلك الأخلاق النبيلة كانت محل اعتزاز رسالة الإسلام والإشادة بها دوما، وما زاد على تلك الخصال المقدورة إلا أنه أفاض عليها ثوب الربانية في القصد والوجهة، وأضاف إليها من عظائم الفضائل ما يليق بالرسالة الخاتمة. فقَرَن الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأخلاق والإيمان بالله ويوم الحساب، ورأى أنَّ نضجَ الخلق ثمرةٌ ليقظة القلب واتصاله ومعرفته بالله تبارك وتعالى: فقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَنْ كانَ يُؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ” رواه مسلم.

إن الآيات والأحاديث التي تُلحُّ كثيراً على تحقيق القصد وتصفية النية تبغي الخُلُق الذي لا ينقطع، والوصال الذي لا ينتظر المكافأة، إنه يريد أخلاقا لا تخفق عند اختبارات الحياة الصعبة، والمواقف التي تمر على الناس فتجعل صديق الأمس عدو اليوم. فقد يحملك الإحسان لشخصٍ ما أنه يُنزلك من نفسه منزلا كبيرا، فإن فتر عن صلتك وبِّرك وخمدتْ جذوة الحب عنده غيَّرتَ وبدلتَ، لكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُعَلمنا معنى آخر يستخرج من النفس حظها، ويرسم للنية مسارها، فيقول: ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قُطعت رحمه وَصَلَها.”

الإنسان هو الإنسان، في الشرق أو الغرب، تسعده ابتسامة، ونخفف حزنه يد حانية، وتأسر قلبه هدية مصحوبة بالصدق، ويبتهج قلبه ويسر بالمنظر الجميل، ويرتاح ضميره للصدق والحق وفعل المعروف، وإننا لنري معظم الأوروبيين يتمتعون بحظ وافر من السلامة القلبية والفطرة النقية والأعمال الخيرية، إنه رصيد الأخلاق الذي تصل نسبه بآدم عليه السلام، ودعوى بعض الناس أنهم يحتكرون حب الخير وصنائع المعروف من الغرور والتعامي عن الحق. لهذا كله علينا أن نثمن كل خير وخلق نبيل نراه عند جميع الخلق في كل مكان وزمان، إنني أبتئس كثيرا عندما أرى بعض المسلمين في ألمانيا يعيش بين الألمان وما زال فظا غليظ القلب، غير منضبط في مواعيده وفي عمله ثم يحدث عن الإسلام بعد ذلك، وهو لا من تعاليم الإسلام اقتفى ولا من أخلاق الألمان الحسنة اكتسى!

أعراف تحتاج الضبط والتهذيب

تعارَف العرب على بعض المعاملات والأخلاق التي تحتاج إلى إعادة نظر في ضبطها وتوجيهها، نظرا لعيبٍ ونقصٍ يُفضي إلى فساد بين الناس، لمَّا قَدِمَ الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة وجد الناس يُسلفون في التمر مؤجلا عاما أو عامين أو أكثر مع قبض الثمن في مجلس العقد، ولا ريب أن هناك غررا في هذا العقد بصيغته تلك فماذا فعل؟

هل ألغى تلك المعاملة والعقد شكلا وموضوعا؟

لقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على بيع السلم ولكنه وضع له ضوابط وشروطا من شأنها دفع الظلم وغلق باب التنافر والتشاحن بينهم، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “مَن أسلَفَ”، أي: مَن باع واشتَرى بالسَّلَفِ والسَّلَمِ؛ “فليُسلِفْ في كَيلٍ مَعلومٍ، ووَزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ ، أي فلا تشترى سعلة مجهولة الأوصاف والقيمة وأجل التسليم .

وبهذا المفهوم والوعي يدرك المسلم الأوروبي أن رسالة الإسلام تدعو للتكامل وسد النقص ومعالجة الخلل، وليس هدما لميراث أمة، أو التطويح بتاريخها وثقافتها، وهكذا جرت سُنَّة الدول في التدافع السلمي الذي هو مناط إصلاح الأرض وعمارة الحياة، إننا لا نطلب من غيرنا أن يقبلوا كل ما لدينا، ونحن كذلك لا نقبل كل وافد من الأفكار والآراء والتصورات علينا، بل نوازن ونحلل ونحاكم وُنقَيم، وفق حكمتنا الخالدة “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس به”.

انقلاب في مفهوم القوة والحق

كان الرجل قبل الإسلام ينصر أخاه على كل حال، في الحق والباطل، عصبية للعشيرة والقوم دون التفات لمبدأ ثابت، أو قيمة أخلاقية مطلقة، وجاء الإسلام لإقامة الميزان واعتداله، فجعل القوةَ طَوْعَ الحق والعدل، والعقلَ قبل العاطفة، والقيمة فوق المصلحة، وأحدث تغييرا في منهج التفكير، فجعل نصرة الظالم إنما تكون بكبح جماحه ووقف طغيانه وإطفاء شرِّه.

لقد كان العربي صاحب النخوة والنجدة يغضب لغضب من يحب، وربما قذف بنفسه في المهالك بالحق والباطل؟ فجاء الإسلام ورشَّد هذه الحمية والعصبية وانتقل بهم إلا الولاء للدولة والأمة رويدا رويدا، وجعل الانتماء للقيم المطلقة، فقال صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا ننظره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فذلك نصره. رواه البخاري

لا يماري أحد أننا نعيش زمان تبدل القيم على نحو غير مسبوق، رغم ما وصل إليه إنسان العصر من كسوب حضارية ارتادت به الآفاق، في كل يوم تتعرض الإنسانية لإخفاقات هائلة أمام اختبار الصراع الموَّار بين المبادئ والمصالح، وهذا ما يجعلنا نحمل لواء ترسيخ القيم المطلقة في الأرض، لينعم كل البشر بحقوقهم دونما تمييز يقوم على اللون أو الدم أو المعتقد.

أعراف طوَّحَ بها الوحي المقدس

وما هي إلا من وحي إبليس، ووساوسه وتزينه السوء فرآه بعض الخَلق حسنا، ومازال بالناس حتى شاعت فيهم المنكرات واستقرت في أنفسهم الموبقات وسيطرت وهيمنت على حياتهم وأصبحت قواما لها، فهل يرضى دين الله بها أو يلوذ بالصمت في وجودها؟ لقد أعلن كلمته واضحة في رفضها وعدم التمهل في تحريمها، كما في سورة الأنعام وهي سورة مكية قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام: 151).

واختط الإسلام منهج التدرج في تحريم بعضها كما في الخمر والربا، حيث اشتبكت تلك المحرمات بحياة القوم نفسيا واقتصاديا، فلم يكن من السهل على الناس أن يفطموا أنفسهم عنها بعد أن شبوا وشابوا عليها أجيالا متعاقبة. فلله ما أعظمه وأرفقه من تشريع، ورحم الله الإمام السرخسي حيث قال في المبسوط: “وفي نزع الناس عن عاداتهم عظيم حرج”، ويجب أن يكون موقف المسلم واضحا ثابتا معبرا عن إيمانه بمبادئه وأخلاقه، يرفض من الأعراف ما يصادم نصوص الوحي وقواعد الشرع ومصالح الخلق، ويدعو للتي هي أحسن بالتي هي أحسن من القول، وفق الحكمة القرآنية والآداب والأخلاق النبوية.

ما حاجة المسلم الأوروبي لفقه العرف؟

إن فهم المسلم لأعراف المجتمعات وأنواعها وأقسامها ومدى نظرة الإسلام لها نظرة موضوعية عميقة، ينتج عقلية منفتحة مرنة تتجاوز القشور إلى المضامين والمعاني، والتفاصيل والجزئيات إلى المبادئ الكلية والأصول الكبرى، وتتجنب لغة التعميم، ونستنجد بالنظر المدقق والقدرة على وزن كل جديد وفق معايير منضبطة. هناك خلط شديد بين ما يدخل في دائرة العرف وما هو من صميم العبادات، وإدخال ما هو متعلق بالعرف في دائرة التعبد ينتج تضييقا على المسلم، والقول بالتحريم في مسائل على أنها من العبادات وهي ليست كذلك، أو إدخالها في باب العقيدة، وعند النظر تجدها من العرف الذي يجري بين الناس ويتعاملون به، ومناط الأمر هو ما يفضي لمصلحة أو مفسدة.

وخذ مثالا واحدا، ويمكن أن نقيس عليه كثيراً من القضايا والمسائل:  لماذا يُحَرم البعض – بإطلاقٍ دون تمهلٍ وتروٍ أو استحضار المصالح والمعاني – الاحتفال بيوم الميلاد الشخصي، أو يوم الأم، أو الأعياد الوطنية؟ وتراك تقرأ فتاوى على وسائل التواصل تُقَلِّب بعدها كفيك عجبا وتقول: أهذا هو التدين الذي يُراد للمسلمين حول العالم عامة ولمسلمي أوروبا خاصة أن يَحيَوه؟ أهكذا نُقدم تصور الإسلام لجوانب اجتماعية مهمة في حياة الناس؟

قالت لي يوما إحدى المعلمات في روضة الأطفال بمدينة فرانكفورت: لماذا يمنع بعض الآباء أبناءهم من الاحتفال بعيد ميلادهم أهو حرام عندكم؟

قلت: لا، ليس حراما، قالت فلماذا يحرم طفله من هذه الفرحة؟!

قلت: ربما هذه قناعته.

وانصرفتُ وأنا أقول في نفسي: لماذا نُشَوه ديننا ونضع مزيداً من العراقيل أمام من يبحث عن الحقيقة؟! ماذا لو ترك الوالد ولده يحيا كبقية زملائه في الروضة في حفلٍ بريء؟!

إن دائرة المباحات في الإسلام واسعة المدى، ودائرة المحرمات محصورة محدودة، لكن نفرا من المسلمين قلبوا القاعدة، فجعلوا الأصل هو الحظر والمنع والتحريم، والاستثناء هو الحلال الطيب، وهم بذلك جعلوه أغلالاً وإصراً، وضيقوا على الخلق واسعا، وقد جاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليرفع كل حرجٍ وعنتٍ عن الإنسانية.. فهل ندرك حقا كم ظلَمْنا ديننا وحجَبْنا أنواره عن كثير من الناس؟!

* رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا. والمقال مأخوذ –بتصرف في العنوان- من مدونات الجزيرة.

 

[opic_orginalurl]

Similar Posts