في ظل أزمة تراجع القيم وانحدار منحنى الأخلاق في العالم الإسلامي، ظهرت نكبة فقدان الصدق، واختفائه من حياتنا إلا قليلا، حتى أننا بتنا نبحث عن الصادقين في كل مجال وفي كل مهنة، فإذا بهم أقلية، يقبضون على صدقهم كالقابضين على الجمر، في مجتمعات صارت تُكذِّب الصادقين وتُصدِّق الكاذبين، إلا من رحم الله!

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر*

الأخلاق

يبدو أن البعض قد غفل عن حقيقة أن الإيمان عبارة عن اعتقاد يصدقه العمل، فظن أنه مجرد شعارات يطلقها اللسان دون أن تستوطن القلب وتمتلك العقل وتُتَرجَم إلى حال وسلوك مع الله ومع النفس ومع الناس.

أورد المقال السابق عدة حقائق عن فضيلة الصدق وبشاعة الكذب، مع الإشارة إلى أن الصدق بات مفتَقدًا، وأن الكذب آخذ في احتلال مكانه خاصة في ظل تدهور الأخلاق الحادث في مجتمعاتنا، بما في ذلك الكذب على الذات، وهو أمر يجعل الحليم حيرانًا متسائلاً؛ ما الذي يجعل أكثر الناس يلجئون للكذب المهلك على حساب الصدق المنجي من المهالك؟!

وقد يستسهل البعض الإجابة على ذلك التساؤل بتحميل إبليس المسؤولية كاملة عن تضليل الناس وغوايتهم لاتخاذ الكذب في حياتهم سبيلا لتحقيق مآربهم، فيلعنونه ليل نهار، متناسين أن الشيطان ليس له على أحد من سلطان، فلا يستطيع أن يجبر مخلوقًا على الاستجابة لأمره، فضلا عن أن كيده ضعيف لا يصل إلى حد السيطرة على عقل الإنسان بالكامل وتوجيهه إلى حيث يريد، إلا إذا سمح له الإنسان نفسه بالاستحواذ عليه.

طبيعة النفس الإنسانية

والحقيقة أن الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل لا يمكن التوصل إليها بعيدًا عن التأمل في طبيعة النفس البشرية ذاتها، والنظر في حجم تأثيرها على سلوك الإنسان ومداه، وقد أخبرنا القرآن الكريم بوجود ثلاثة أنواع من الأنفس، نفس توجه الإنسان إلى فعل الخير –ومنه التحلي بالصدق- والمداومة عليه (وتلك هي النفس المطمئنة)، ونفس تتراوح به بين فعل الشر –كالكذب- وفعل الخير -كالصدق- فيظل في حالة من القلق ولوم الذات (وتلك هي النفس اللوامة)، ونفس تغويه للشر دومًا فتأمره بالمنكر وتنهاه عن المعروف (وتلك هي النفس الأمارة بالسوء).

وإذا تأملنا أكثر في حال النفس –بأنواعها الثلاثة- وفيما يبعثها على الصدق أو الكذب، الخير أو الشر، فإننا قد نكتشف أنها تتحرك غالبًا بضغط من باعثين اثنين أساسيين- أحدهما أو كليهما- وهما: الخوف والطمع؛ الخوف من العقاب أو من الخسارة أو من فوات الكسب أو من الضُر بصفة عامة، والطمع في الثواب والكسب والفوز أو في تحقيق النفع عمومًا، وهذا أمر مفطور عليه كل إنسان بلا استثناء.

 وسنلاحظ أن النفس تكون مطمئنة (صادقة) أو لوامة (صادقة تارة وكاذبة أخرى) أو أمارة بالسوء (كذابة) بحسب درجة الخوف والطمع التي تسيطر عليها، وبحسب من تتوجه إليه بخوفها وطمعها؛ فالنفس المطمئنة تهون الدنيا ومنافعها لديها، فلا تبالغ في الخوف ولا في الطمع، ودائمًا يكون خوفها الأساس هو من عقاب المولى عز وجل، بينما يكون طمعها الرئيس في ثوابه، وهذه هي أنفس المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعا، تصديقًا لقوله تعالى: “وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” (الأعراف:56)، وقوله: “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ” (السجدة:16).

أما النفس الأمارة بالسوء فإنها تستوطن أحرص الناس على الحياة الدنيا، المفتونين بملذاتها المادية، يخافون من فقدها، ويطمعون في المزيد منها، فيحرصون عليها لأن ذلك هو مبلغهم من العلم، ويتوجهون بخوفهم وطمعهم إلى بشر أمثالهم، ويتخذون الكذب سبيلا كلما رأوه يقيهم مما يخافون ويحقق لهم ما يطمعون، وغالبًا ما تكون هذه النفس هي نفس الكافر والمنافق والملحد وكل من لا يصدق في إيمانه بيوم الحساب، وبأن العاقبة والفلاح فيه للمتقين الصادقين.

أما النفس اللوامة فتكون فيمن يخلطون عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم، فتجدهم يتراوحون بين الصدق فيسعدون، والكذب فيتألمون، لكنهم نادرا ما يخدعون أنفسهم، لأنهم يدركون أن الفلاح للصادقين لكنهم يضعفون أحيانًا أمام شهواتهم وعواطفهم فيقعون في أسرها، ويتقلب حالهم بين أعمال الصادقين وأعمال الكاذبين.

بين الخوف و الطمع

فالخوف والطمع إذن هما الباعثان الأساسيان للإنسان على الكذب أو على الصدق، فلا تكاد تجد صادقًا أو كاذبًا، إلا خائفًا من شيء ما أو على شيء ما، أو طامعًا في الحصول -أو الإبقاء- على منفعة ما، فمنهم من يخاف من متسلط، أو من فقر، أو من فضح، أو من ضياع، أو على سمعته، أو أبنائه، أو أهله، أو وجاهته الاجتماعية، أو ماله…إلخ، أو تجده طامعًا في غير ذلك من متاع الدنيا وزينتها.

والمؤمن الصادق مثله مثل بقية البشر، يحركه دومًا الخوف أو الطمع أو كلاهما، ولكن الفارق الهائل بينه وبين غيره أنه يتوجه بخوفه وطمعه إلى الله وحده دون غيره، باعتباره هو وحده سبحانه الضار والنافع، لا أحد سواه، وهو الاعتقاد الذي يدفع بالمؤمن إلى التزام الصدق دومًا لأنه هو الطريق الوحيد لنيل رضا ربه ومن ثم للحصول على ما يريد في دنياه وآخرته، فتجده يعيش في حالة من الاتساق مع ذاته دومًا، يظهر ما يبطن، وعمله يُصدِّق اعتقاده وقوله، ويكره الكذب كما يكره الكفر، ولا يلجأ إليه أبدًا إلا إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ووفق الضرورات التي تبيح المحظورات، مراعيًا حينئذ أن يُقدِّر الضرورة بقدرها، وحينها تجده يتحرى الصدق حتى في هذه الأحوال العصيبة، قابضًا عليه، لا يحيد عنه غاية وسعه.

وقد يكون ربط الإيمان بالصدق على هذا النحو مرجعه أن هذا هو الاختبار الأساس لعقيدة التوحيد في قلب الإنسان، فمن يخاف البشر أكثر من خوفه من ربه، سيعصي ربه ويستخفي من الناس ولا يستخفي من الله، فيجعله –جل وعلا- أهون الناظرين إليه، بينما يُعظِّم مخلوقًا مثله لا يملك من أمره شيئًا، فكيف سيجمع بين الإيمان والكذب وهما متناقضين غاية التناقض؟!

ويبدو أن البعض قد غفل عن حقيقة أن الإيمان عبارة عن اعتقاد يصدقه العمل، فظن أنه مجرد شعارات يطلقها اللسان دون أن تستوطن القلب وتمتلك العقل وتُتَرجَم إلى حال وسلوك مع الله ومع النفس ومع الناس، ومن ذلك هؤلاء الذين أشرنا إليهم في المقال السابق، الذين أطلقوا على أنفسهم بعض الأسماء الجذابة الخادعة، وكادوا يزعمون -كذبًا- أنهم هم وحدهم أنصار الوطن أو الحرية أو الدين أو الإنسانية، بينما انتهجوا مسالك –ومسارات- مناقضة تمامًا لما زعموا، خوفًا من فقدان ما يرنون إليه من مكاسب دنيوية أو من تسلط ذوي السلطان عليهم، أو طمعًا في نيل الحظوة عندهم، أو لإزالة سلطانهم والجلوس على كرسيهم بدلا منهم، فكلهم يولون وجوههم شطر السلطة بحجة تمكينهم من تطبيق شعاراتهم!

هؤلاء وأمثالهم تفضح أعمالهم أكاذيبهم، ولذا سرعان ما يفقدون مصداقيتهم لدى من يطمعون في كسب مودتهم، أو يحذرون غضبهم ونقمتهم، فينالون عكس مقصودهم، وهذا هو البلاء المبين!

وللحديث بقية….

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)

____________________________________

*كاتب وباحث مصري

[ica_orginalurl]

Similar Posts