الحقيقة أن التكييف الصحيح لحال المسلمين في القرون المتأخرة أن إسلامهم كإسلام (الأعراب) الذين يقولون آمنَّا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم، بل كان عليهم أن يعترفوا بأنهم مجرد مسلمين (إسلام جوارح)، إسلام الظاهر المكتسب بالوراثة غالبًا، والذي لم يتمكن من القلوب والعقول بعد…

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر*

من إسلام الأعراب إلى إيمان الأصحاب!

الأخلاق

لنبدأ الآن خطواتنا العملية للتخلص من وهننا وضعفنا وهواننا على الناس، فيجلس كل مِنَّا مع نفسه ويدرس مدى صدقه مع الله ومع نفسه ومع الناس.

انتهى المقال السابق إلى التنبيه إلى ضرورة أن نتحول من إسلام الأعراب إلى إيمان الأصحاب، وهو أمر يحتاج إلى تفسير أكثر، وإلى محاولة رسم خطوات عملية لذلك التحول، وفاء لوعد قدمه الكاتب للقراء من قبل بالتركيز على الجوانب العملية إلى جانب النظرية؛ والتي هي ضرورية كذلك باعتبارها هي التي تضع التفسيرات والتحليلات للظواهر الاجتماعية والإنسانية (والعلمية) وتدرس أسبابها وأبعادها، وتتنبأ بمستقبلها و مآلاتها المتوقعة، ومن ضمنها ظاهرة الانحدار الأخلاقي في العالم الإسلامي محل هذه السلسلة من المقالات.

والواقع أن التفسير الأهم لما يريد هذا المقال لفت الاهتمام إليه، نجده بشكل واضح وحاسم عند التأمل بعمق في قوله تعالي في محكم التنزيل: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” (الحجرات:14-15).

جاء في بعض تفاسير القرآن لهاتين الآيتين أن الأعراب المقصودين في هذه الآية هم أعراب بني أسد بن خزيمة، الذين “امتنوا بإسلامهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أسلمنا، ولم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان”. قال ابن زيد فيما نقله عنه الإمام الطبري: “لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم، فرد الله ذلك عليهم (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون، صدقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق; قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق” (تفسير الطبري، جامع البيان..، 22/ 314، 315).

ونظرًا لأن القاعدة الأصولية تقرر أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب“، فإن الآية لا تنطبق على أعراب بني أسد وحدهم، بل تنطبق على كل من اقتصر إسلامهم على الكلام وحده دون أن يتبعه العمل المخلص الصادق، من أول الخلق حتى نهايته، ومن ثم فهو أمر يسري على الكثيرين من مسلمي العصور المتأخرة الذين قَصُرَ إسلامهم على الكلام بالقرآن -أحيانًا وعلى إثبات هويتهم الإسلامية في بطاقاتهم الشخصية.

ومن حسن الحظ أنني وجدت في تفسير المنار للإمام محمد رشيد رضا ما يدعم هذه النتيجة حين ذكر صراحة أن: “الإيمان الذي حصر الله الصدق في أصحابه (في الآيتين المذكورتين) كان قد فُقِدَ من أكثر أهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر، فإن الذي تَصدُق عليه هذه الأوصاف صار نادرا جدا ولذلك حُرم المسلمون ما وعد الله المؤمنين من العزة والنصر، و الاستخلاف في الأرض، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا إلى التخلق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والأوصاف” (تفسير المنار، 2/ 92).

عناصر الأخلاق الرئيسة…

والحقيقة أن المتأمل في قول الله تعالى سالف الذكر سيجد أنه سبحانه قد ذكر العناصر الرئيسة التي إذا تَخَلَّق بها الإنسان في -كل زمان ومكان- يكون مؤمنًا حق الإيمان، ومن أهمها الإيمان الذي لا يخالطه ارتياب، والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله عز وجل، والتحلي بالصدق الذي يدخله ضمن هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين صدَّقوا اعتقادهم وأقوالهم بالعمل الجاد المخلص، مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يخذلوا نبيهم أبدًا، التزامًا منهم بعهدهم مع الله.

فالصدق الذي ينجي صاحبه في الدنيا وفي الآخرة لا يتمثل فقط في أن يبتعد الإنسان عن الكذب في حديثه بل يمتد إلى اعتقاده وعمله، وهذا هو الأهم؛ فإن صِدق الاعتقاد والعمل هو المعول عليه أصلا عند الله عز وجل ثم عند الناس أنفسهم، الذين ينظرون في سلوك الشخص فإذا صدَّق قوله صدقوه، وإذا خالفه كذبوه واتهموه بالنفاق أو بضعف الإيمان.

والملاحظ أننا دخلنا في دوامة الكذب حتى على أنفسنا، فكثيرًا ما نتعلل بالتسلط السياسي والاقتصادي –وغيرهما من أنواع التسلط الواقع على كثير من المسلمين- للتوقف عن العمل الجاد الذي يخدم هذا الدين، ويسهم في تخلص الذات (الفردية والجماعية) من وهنها واستكانتها في مواجهة الظلم والظالمين، وفي مجابهة الواقع المحيط الذي غلب عليه العمل للدنيا حرصًا عليها في مواجهة الآخرة، ليكون حالنا أشد بؤسًا من حال بني إسرائيل في كونهم “أحرص الناس على حياة” مهما كانت حقارتها ودونيتها.

ولو صدق هؤلاء الذين يزعمون انسداد أفق العمل لعزتهم وعزة الأمة أمامهم، لسعوا إلى فتحه غاية استطاعتهم، ولباتوا مهمومين بذلك في ليلهم ونهارهم، لكن للأسف سرعان ما ستلمس أن الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم، تحركهم المصالح الدنيوية، ولا يحركون ساكنًا في سبيل تحقيق مصالحهم الأخروية إلا بالقدر الذي يرشون به ضميرهم الديني، أو يراءون به الناس، عبر أداء بعض الشعائر العلنية الخالية من الروح والإخلاص لله عز وجل!

ولنبدأ الآن خطواتنا العملية للتخلص من وهننا وضعفنا وهواننا على الناس، فيجلس كل مِنَّا مع نفسه ويدرس مدى صدقه مع الله ومع نفسه ومع الناس، هل هو صادق في إيمانه بالفعل؟ وهل إيمانه –حال وجوده- قويًا إلى درجه يستحق بها وعد الله للمؤمنين بالعزة والنصر والتمكين؟ عسى أن يتوب الله عليه فيتوب!

وللحديث بقية >>>

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)


* كاتب وباحث مصري

[ica_orginalurl]

Similar Posts