يمكن الاستعانة بدراسة النماذج الرائعة من الشخصيات التي استطاعت بناء مصداقيتها، واستثمارها في تنمية الإنسان، وتقوية الإيمان، بل وفي تبوئ المناصب والقيادة في المجالات المختلفة، وذلك للاحتذاء بها والاقتداء بسيرتها وبحرصها على الصدق إلى الحد الذي فتح لها قلوب الناس فنالوا ثقتهم، وهو الأمر الذي يحسن التوقف عنده في المقال المقبل عسى أن يكون خير ختام لهذه السلسلة من المقالات المتعلقة بقيمة الصدق…

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر* (ينشر المقال بالتزامن مع جريدة السياسة الكويتية)

الأخلاقيقتضي بناء المصداقية أن يسلك الإنسان طريقًا مستقيمًا وشاقًا لتحقيق ما يصبو إليه، وهو الطريق الذي سلكه من قبل نوح -عليه السلام- الذي ظل يقبض على جمر دعوته للهداية والصلاح تسعمائة وخمسين عامًا، حتى أمره الله أن يبني سفينته وسط الصحراء ليتلقى سخريات لاذعة من جهلاء قومه، وهم الأغلبية الكاسحة، ويتلقى طعنة خيانة زوجته وابنه بكفرهما بدعوته حتى غرقوا مع من غرقوا، فإذا به يصبر ويشكر حتى نجح في أن ينال -في النهاية- مصداقية خالدة جعلت منه الأول -من حيث الترتيب الزمني- من الخمس أُولي العزم من الرسل.

إنه هو ذاته الطريق الذي سلكه أولو العزم من بعد نوح، فقد أُلقى إبراهيم –عليه السلام- في حفرة من النار غير مبالٍ بالموت محترقًا في سبيل دعوته، فنجاه ربه تمهيدًا لاختباره بابتلاءات أخرى لا يكاد يقدر على تحملها الكثير من البشر، مثل ابتلاء مواجهة الملك الجائر الذي ظن أنه يحيي ويميت، وابتلاء الحرمان من الإنجاب، ثم ابتلاء ترك زوجته وابنه وحدهما في الصحراء ليذهب لملاقاة ربه، ثم الابتلاء الأعظم، حين أُمر بذبح ابنه الذي كان قد ظل يتمناه حتى بلغ من العمر عتيًا، كل هذه الابتلاءات، وغيرها، كان يلاقيها إبراهيم صابرًا راضيًا محتسبًا، صادقًا في إيمانه وعمله، مما أوصله إلى منزلة خليل الرحمن وأبي الأنبياء المرسلين من بعده، ومنهم الثلاثة الباقين من أولي العزم، وهم: موسى وعيسى ومحمد –عليهم السلام، الذين ساروا على نهج أبيهم، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، بعد أن تحدوا كل الصعاب، وتحملوا ما لا يتحمله بشر، من اعتداءات المعتدين، وافتراءات الجاهلين، وانتحالات المبطلين!

كما سار في الطريق نفسه بقية الأنبياء، حيث اكتسبوا مصداقيتهم من إصرارهم على أن تستوى ظواهرهم النيرة مع بواطنهم الخيرة، فإذا بهم يسبقون كل البشر في اتساقهم مع ذواتهم وشفافيتهم، وفي إصرارهم على عدم التنازل أبدا عن عقيدتهم ومبادئهم مهما كان الثمن، ومن ضمنهم لوط عليه السلام الذي هاجر إلى ربه داعيًا قومًا هم أفسد من في الأرض حينها، حتى سميت واحدة من أكبر الفواحش باسمهم حصريًا، فإذا به يصبر عليهم ولا يهجرهم رغم سفالاتهم وانهيارهم الأخلاقي محتفظًا بطهارته من رجسهم حتى جاء الأمر بإهلاكهم بما كسبت أيديهم.

ومن الأنبياء السائرين على درب الصدق ذاته كان إسماعيل عليه السلام الذي صدق في وعده فأسلم رقبته لأبيه ليقطعها طاعة لأمر الله عز وجل، فينجيه ربه ويصفه بأنه “كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا” (مريم:54)، وكذلك كان شعيب عليه السلام الذي رفض أن ينهى قومه عن شيء ثم يرتكبه، فيقول: “وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ” (هود:88)، أما أيوب عليه السلام فلقد صبر على مرضه سنوات عديدة مستحييًا أن يطلب من ربه الشفاء حتى بات رمزًا خالدًا للصبر الجميل، على نهج يعقوب عليه السلام الذي صبر على فراق أحب أبنائه إليه بعد أن ألقاه إخوته في غياهب البئر فحرموه بجريمتهم من فلذة كبده وأمله في هذه الحياة عشرات السنين حتى رده الله إليه… إلخ.

وسيتعجب الكثيرون من ذكر هذه النماذج في إطار حديثنا عن كيفية بناء المصداقية في عالمنا المعاصر، وذلك لاعتقادهم الغريب بأن هؤلاء (أنبياء معصومين) لن يصل أحد مطلقًا إلى ما وصلوا إليه، ومن ثم فليس من الحكمة المقارنة بهم، غافلين عن أن هذا من تلبيس إبليس وجنوده –حسني النية- من الإنس الذين يظنون أنهم بموقفهم هذا يثبتون للأنبياء منزلة سامية، غير مدركين أنهم بذلك يعزلونهم عن منزلة القدوة، ويخالفون النص القرآني على بشريتهم، كما أنهم يغفلون عن حقيقة أن الأنبياء لن يسكنوا وحدهم في عليين، بل سيرافقهم فيها كل صدِّيِق (بكسر الصاد وتشديد الدال) أي من بلغوا من الصدق أشده ولو لم يكونوا من النبيين، مصداقًا لقوله تعالى: “وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا” “النساء: 69“!

ومعنى ذلك أن من الناس من سيصل بهم صدق إيمانهم وصلاحهم إلى ما يستحقون به مرافقة الأنبياء في الآخرة، فالباب مفتوح دوما أمامهم للتقوى ونيل المصداقية أمام الخالق والخلق، بصدق الاعتقاد والعمل الصالح الجاد على نهج الأنبياء، فلماذا لا نكون مثلهم، أو على الأقل نتشبه بهم!

لقد سبقنا صحابة الأنبياء إلى فهم هذا الأمر حتى استحقوا أن يكونوا أسوة حسنة لمعاصريهم وللأجيال التي تليهم، ومنهم مثلا صحابة سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي قال فيهم المولى عز وجل: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ“، “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” (الممتحنة:4،6)، وكذلك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين أثنى عليهم ربهم فقال: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” (الأحزاب: 23، 24).

والحديث سيطول بشدة إذا ما أردنا ضرب الأمثال بسير الصحابة على كيفية اكتساب المصداقية، والتي لم تأت من فراغ، فكم من مال أنفق أبو بكر الصديق وعثمان وعبد الرحمن بن عوف على الدعوة الإسلامية حتى وصلوا إلى ما وصلوا من منزلة، وكم صبر بلال بن رباح على التعذيب الجسدي والنفسي حتى نال مرتبة السيد على من كانوا أسياده من البشر، وكذلك فعل غيرهم من كبار الصحابة الذين باعوا أنفسهم ليشتروا بها رضا ربهم، وليضربوا أروع الأمثلة على أن الثبات على الحق ومواجهة الباطل هو الطريق الصحيح لنيل المصداقية حتى عند من لم يعاصروهم!

غير أنه من الضروري كذلك أن نبرز للناس نماذج طيبة حديثة ومعاصرة، نحسب أنها بلغت من الصدق مرتبة كبيرة، اكتسبوا بها الاحترام وجعلت منهم أسوة حسنة لكل من يريد أن يسير على الطريق المستقيم ويدخل ضمن زمرة الصادقين المصدقين، عسى أن يدرك الجميع أن لا حجة لامتهان الكذب مهما كان حال العصر الذي يعيشون فيه!

وهذا هو الحديث المقبل بإذن الله تعالى…

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (22)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (23)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (24)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (25)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (26)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (27)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (28)


[ica_orginalurl]

Similar Posts