فقد العالم صدق الوجهة، حين فقد المسلمون وجهتهم ولم يدخلوا مدخل صدق، أو يخرجوا مخرج صدق، بل فتحوا الأبواب على مصراعيها للكذب في الاعتقاد والأقوال والأفعال مما يقتضي منهم أن يعجلوا بالتوبة النصوح ليهتدوا بالإيمان ويهدوا إليه العالم بعد أن يثق فيهم وفي مصداقيتهم حين يرى الإسلام في سلوكهم محركًا للعلم ودافعًا للعمل الصادق الخلاق، لا مجرد “أفيون” يخدرهم ويُمكن منهم كل ظالم أو طاغية!.. فهل من سبيل إلى التخلص من فقدان الصدق، ومن عواقبه الوخيمة على المستويين الخاص والعام؟

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر* (تنشر المقالات بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

الطريق إلى الصدق

الأخلاق

علينا الاهتمام بالجانب التربوي باعتباره هو الحل الأمثل لعلاج مشكلة كذب الأقوال والأفعال من جذورها، لاسيما فيما يخص تربية الأطفال.

لا تعد نكبة فقدان الصدق من النكبات غير القابلة للعلاج، بل على العكس، هناك دائمًا أمل في التخلق بالصدق وهجر الكذب هجرة لا عودة فيها، وحين نقول هناك أمل، فينبغي أن ينصرف ذهننا على الفور إلى الفكر والعمل، وإلا تحول أملنا إلى أمنية نحلم بها فقط دون أن تجد سبيلها أبدًا للتطبيق.

فلنوجه أعيننا على الفور إلى الدواء بعد أن علمنا حقيقة الداء ومكامنه ومظاهره ونتائجه، ولننظر فيما أرشد إليه الله سبحانه في كتابه العزيز من سُبل إلى الصدق، والتي جسدها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وفي سيرته العملية، وسار على هديها كثير من المسلمين عبر القرون، كما بينها العديد من الفقهاء والمفكرين، في ثنايا إنتاجهم العلمي والفكري، ولكن –للأسف- حال الفكر الفعال في بلادنا كحال النص؛ اتخذه المسلمون مهجورًا!

ولسنا الآن بصدد استعراض الفجوة فيما بين الإسلام (المهجور إلا قليلا) والمسلمين (المهاجرين منه لا إليه)، والتي سبق استعراضها من قبل وطرح ما يمكن أن يسهم في معالجتها، في مقالات ثلاثة سبق نشرها ضمن هذه السلسلة المعنية بدراسة الجذور الفكرية لأزمة الأمة الإسلامية الأخلاقية، وإنما سنركز فقط على كيفية معالجة وجه واحد من أوجه تلك الفجوة، وهو فقدان الصدق.

ولعل أول ما يمكن طرحه في هذا المقام من علاج لفقدان الصدق، هو الاهتمام بالجانب التربوي باعتباره هو الحل الأمثل لعلاج مشكلة كذب الأقوال والأفعال من جذورها، لاسيما فيما يخص تربية الأطفال على الصدق، ظاهرًا وباطنًا،؛ فقد قالوا قديمًا التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وهو أمر أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين نهى عن الكذب على الأطفال؛ فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: دعتني أمي يوما ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدٌ فى بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (وما أردت أن تعطيه؟)، قالت: أعطيه تمرًا!!، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة) (رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سُننه، والبيهقي في “شعب الإيمان”).

نقطة الانطلاق في تربية الصغار..

وهذا الحديث يشير إلى نقطة الانطلاق في تربية الصغار على الصدق، وهي أن يصدق الآباء والأمهات معهم دائمًا في أقوالهم وفي وعودهم، ومن ثم ومن باب أولى في أفعالهم، حيث ينبغي ألا يخالف المربون أطفالهم إلى ما ينهون عنه، وهو أمر مختلف تمامًا عما نراه من عدم اهتمام كثير من الآباء والأمهات بالتربية بالقدوة، فنجد بعض الآباء -على سبيل المثال- ينهون أبناءهم عن الكذب وهم أنفسهم لا يهجرونه، وعن التدخين، وهم لا يفارقونه، ويحثونهم على التقليل من مشاهدة التلفاز وهم لا يكفون عن متابعته أمام أطفالهم…، وهكذا.

والواقع أن حال المربين من الوالدين لا يختلف كثيرًا عن حال الكثير غيرهم من المسئولين عن المؤسسات ذات الطابع التربوي، كالمدارس والجامعات..، الذين كثيرًا ما يحضون على الصدق والإخلاص في العمل، فإذا بهم هم أكثر الناس تفريطًا في مسئولياتهم، دون أن يعترفوا بكذبهم قط، بل وقد ينسبون خطاياهم إلى غيرهم زورًا وبهتانًا، مما يجعلهم قدوة سيئة لأتباعهم.

ولا تنحصر خطايا بعض المربين في كذبهم فقط، بل تمتد إلى اعتماد أكثرهم للاستبداد المخيف منهجًا في التعامل مع من جعلهم الله أمانة في أعناقهم، مثل الطلبة والتلاميذ، فإذا بهم يقهرونهم ويتوعدونهم إذا خرجوا عن طوعهم، أو حين يتجرؤون ويناقشونهم في إملاءاتهم، وهو أمر سبقت الإشارة إلى أنه من أهم البواعث على الكذب.

لقد آن الأوان لهجر التربية بالعصيِّ (جمع عصا)، ولم يعد هناك بُد من تحرير الأطفال من قبضة استبداد الآباء والأمهات (لا من برهما وطاعتهما بالمعروف)، وتحرير المؤسسات التربوية من تغول بعض قادتها وأكاذيبهم المتواترة، وحان الوقت لإجبارهم على استبدال الإقناع بالقمع، والشفافية بالغموض، والنصح العملي بدلا من المواعظ والشعارات الفارغة، فهذا هو أول الطريق إلى الصدق.

وقد جاء استعمال  لفظ الإجبار الآن بسبق الإصرار والترصد، بعدما بلغ الأمر مبلغ الكارثة، حيث نقرأ كثيرًا عن تلاميذ يموتون قهرا، أو تعذيبًا، من آبائهم أو مدرسيهم، ناهيك عن شعوب بأسرها تنقاد بالرعب والتنكيل والظلم الوبيل، وهي جرائم لا يجوز أن يفلت أصحابها من قبضة سلطة القانون الرادعة، فينبغي على سبيل المثال؛ أن يعاقب الأب القاتل لابنه أو المعذب له بأشد العقوبات ولو لم يقصد إزهاق روحه، فالعبرة هي بضرب الطفل ضربًا مبرحًا، أدى لموته في النهاية أو لم يؤد، ويتعين أن تطبق العقوبات نفسها على القاتلين لشعوبهم القاهرين لإراداتهم المفسدين لأخلاقياتهم، ومن هنا ينبغي البحث عن سبل لمحاسبة هؤلاء أمام قضاء دولي عادل، حتى لو لم تنفذ أحكامه للخلل المشين في بنية النظام الدولي المعاصر وسياساته المجحفة، فعلى الأقل ستمثل تلك الأحكام –إذا صدرت- ضغوطًا أدبية، وملاحقات نفسية لهؤلاء المجرمين في حق الإنسانية.

إن معالجة فقدان الصدق لا يمكن أن تأتي فقط عبر الدعوة اللفظية إلى ترك الكذب الظاهر وحده، ولكن يتعين أن يصاحب ذلك التصدي لكل من يدفع الناس إلى الكذب بتهديدهم بـ “العصا” أو إغوائهم بـ “الجزرة”، وهذا هو السبيل الأهم لمقاومة الكذب وتيسير التخلق بالصدق، أن يعيش الناس في بيئة آمنة كريمة تترك لهم حرية اختيار حياتهم بأنفسهم فيما لا يخالف الشرع والقانون (وهي مساحة بالغة الاتساع)، لا في ظل سلطات مستبدة تعاملهم كالقطيع وتدفع بهم إلى هاوية الكذب والنفاق.

وينبغي الآن أن نلتفت من جديد إلى ما سبق أن طرحه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الأشهر “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” مع تعميمه على كافة أنواع الاستبداد، وليس فقط الاستبداد السياسي الذي كان يركز عليه الكواكبي في كتابه، نظرًا لخطورة الإدارة الاستبدادية بصفة عامة، سواء في الأُسر، أم المؤسسات، أم المجتمعات، أم الدول، فإن: “الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحسِّ وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة” (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص: 122).

وللحديث بقية.

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (22)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (23)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (24)

________________________________________________

[ica_orginalurl]

Similar Posts