يمثل حوار أبو الأنبياء مع الكون نضج العقل الإنساني، ومحاولته فك أسرار الخليقة بالاعتماد على العقل…

د. أحمد خيري العمري

شبه جزيرة العرب

النسب عند العرب بالغ الأهمية؛ حتى إنهم كانوا يعدون من لا نسب له ليس عربياً.. لذلك اعتمد الخطاب القرآني جدهم الأكبر لتوصيل مفهوم العقيدة الجديدة.

طرح الخطاب القرآني تساؤله الأول بصيغة شديدة الخصوبة، وشديدة الإيحاء، ومن ثم شديدة التأثير.

لقد اعتمد الخطاب القرآني على أنموذج تاريخي عريق ليدخل من خلاله التساؤل إلى عقيدة أولئك الذين أخذوه بقوة من شباب مكة في الجيل الأول.

وكان هذا النموذج الذي يمثله القرآن لتحرير العنصر الأول من عناصر التفكير الإسلامي هو نبي الله إبراهيم الخليل، عليه السلام.

هناك ثلاثة أمور ينبغي تسجيلها على اختيار إبراهيم عليه السلام دون غيره

الأمر الأول: أن العرب تنسب نفسها جميعاً إلى إبراهيم عبر ابنه إسماعيل، الذي شارك أباه في بناء الكعبة.

 والنسب عند العرب بالغ الأهمية؛ حتى إنهم كانوا يعدون من لا نسب له ليس عربياً.. لذلك اعتمد الخطاب القرآني جدهم الأكبر لتوصيل مفهوم العقيدة الجديدة، القديمة (العقيدة الحنيفية الأصلية).

الأمر الثاني: أن إبراهيم بالذات يحتل المكانة المميزة عند أهل الكتاب نفسها سواء كانوا نصارى أو يهوداً. والذين كان لهم وجود وتأثير في الجزيرة بأشكال متعددة ومختلفة. سواء عبر وجودهم وإمكانياتهم المادية التجارية المختلفة، مثل اليهود. أو عبر وجود كيانات ودول كبرى تدين بالنصرانية، وتجاور الجزيرة (الروم- الحبشة)؛ فاختيار إبراهيم كان يمنح صلة وصل عميقة الجذور لا بالنسب العربي فحسب، بل بالعلاقات بين الأمم، وبالذات بأمم أهل الكتاب التي كانت تعد نفسها، عن حق، أرقى من بقية الشعوب الأمية، والتي كان العرب من ضمنها.

الأمر الثالث: أن الصورة التي يطرح من خلالها إبراهيم هي صورة أصلية ولا وجود لها في التوراة أو في الكتابات الإنجيلية. وذلك بالتأكيد يزيدها رسوخاً وعمقاً، ضمن نسيج الخطاب القرآني المتميز عن التوراة إلى صِبا إبراهيم وبواكير وعيه، ليعرفنا على جذور القصة غير المحكية في التوراة. وقبل أن نسترسل علينا أن نؤكد أن هذه القصة لا تأخذ أهميتها الحقيقية، إلا عبر فهم المكانة المميزة التي احتلها إبراهيم في الخطاب القرآني، فهو الذي  قال فيه الخطاب المنزل:”إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (النحل: 120)، “وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ” (الأنبياء:51)، “قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (آل عمران: 95).

من هذه الحقيقة المميزة للوضع الإبراهيمي في السياق القرآني، يمكن أن نفهم كيف بني الخطاب القرآني عنصر التفكير الأول عليه.

كيف صار إبراهيم- أبو الأنبياء وأبو العرب وصاحب الملة الحنيفية- نبياً؟

ما التربة التي صارت خصبة معدة لاستقبال حكمه البنوة ومسؤولية الرسالة؟

ما العوامل النفسية- السلوكية التي جعلته مهيأً ليكون الأب الروحي للأديان السماوية الثلاثة؟

يجيبنا الخطاب القرآني عن هذه التساؤلات بطريقة موجزة و موحية، كالعادة.

ليلة أشرق فيها العقل..

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي  فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (الأنعام: 74- 79).

هذا الحوار الذي دار بين إبراهيم وأبيه أولاً، وبين إبراهيم والكون ثانياً، وبين إبراهيم ونفسه ثالثاً، لم يكن مجرد حوار عادي دار ذات ليلة بين أب وابنه، بل كان أعمق من ذلك وخارجاً عن المقاييس الزمنية والتاريخية. إنه حوار في عمق الوعي الإنساني والتجربة البشرية بأسرها، حوار شكل منعطفاً مهماً في تاريخ الفكر الإنساني، واكتملت انعطافته بظهور الأديان السماوية المرتبطة بشكل أو بآخر بإبراهيم.. ينطلق إبراهيم في هذا الحوار التاريخي من الشك بالمسلمات التقليدية في مجتمعه، ثم عندما يجن الليل عليه، يبدأ بالبحث المباشر عن إله هذا الكون.

والثالوث الذي تقلب إبراهيم فيه تلك الليلة حتى الصباح، لم يكن ثالوثاً اعتباطياً، فالزهرة والقمر والشمس هي من العبادات شديدة الانتشار عند الأقوام السامية عموماً (إن لم يكن عند غيرها أيضاً). وقد ظلت هذه العبادة قائمة حتى ظهور الإسلام؛ ومن أسماء العرب المعروفة: عبد شمس، والمعروف أن قريشاً كانت تصلي صلاة للشمس عند الضحى. والقمر أيضاً كان معبوداً معروفاً عند الجاهليين خاصة عند السبئيين([1])،

إن الكواكب والنجوم والأصنام لم تنفرد بعبادتها الأقوام السامية فحسب، بل شاعت عبادتها في كل أنحاء الأرض عبر التاريخ. مع اختلافات متنوعة في التفاصيل، لكن الحيرة الإبراهيمية والحوار الإبراهيمي يخرج بهذا عن إطاره الفردي، ليكتسب أبعاداً حضارية إنسانية عميقة موغلة في القدم: إنه بحواره مع أبيه يمثل تمرد جيل جديد على الأفكار التقليدية والمسلمات الاجتماعية البالية. والأب هنا هو رمز لكل السلطات والمؤسسات الاجتماعية التي تكرس بقاء التقاليد والمسلمات والأعراف، وتوفر لها الحماية والاستمرارية.

وحوار أبو الأنبياء مع الكون يمثل نضج العقل الإنساني، ومحاولته فك أسرار الخليقة بالاعتماد على العقل.

إنه يمثل الحيرة والشك الموجودين أمام الحياة والموت والوجود ككل، وهو يمثل بالوقت نفسه محاولة الاعتماد على العقل، للخروج من هذه الحيرة، وهذا الشك، وذلك برفض كل المسلمات والبديهيات التقليدية، والبدء من جديد، من نقطة جديدة.. نحو هدف جديد، وبأساليب مختلفة وغير تقليدية.

تلك الليلة التي قضايا إبراهيم متقلباً حائراً على فراش التساؤلات المزدحمة كانت ليلة طويلة جداً، ولم تنته عندما أشرقت الشمس؛ إذ أنه ظل حائراً يبحث فيها عن ربه.. لكنها انتهت عندما أشرق العقل في داخله. عندما وجد الإجابة عن تساؤلاته فيه. عندما وجد أن الجسر نحو الخلاص موجود في أعماقه، فقط عليه أن يخطو نحوه الخطوة الأولى، متحرراً من كل الأحكام التقليدية والنظرة المسبقة والتقاليد البالية- المسيطرة فقط لأنها تنتمي للأولين.

تلك الخطوة بدأت بالشك بهذه المسلمات في عقل إبراهيم. بدأت بالتساؤلات المزلزلة التي اقتلعت فكرة الأصنام والأوثان من عقله.

إنه التساؤل الذي سرى مثل التيار الكهربائي، ليمنح الحياة والروح إلى العقل الأول: عقل الإنسان الذي سيصير أباً روحياً- بل جسدياً من الناحية الافتراضية- لثلاث أمم وثلاثة أديان سماوية.. إنه العقل الذي كون تلك التربة الخصبة المهيأة لاستقبال الوحي الإلهي.

لقد كانت الشرارة الأولى التي مهدت لنزول الكلمة الإلهية، هي شرارة احتكاك العقل بالواقع، ومعطياته بعيداً عن الأحكام المسبقة والنظرة التقليدية. إنه العقل الذي سبق الوحي، بل مهد له وعبَّد له الطريق، إنه العقل الذي مثل البوتقة التي انصهر فيها الوحي الإلهي وتفاعل وتكامل معها. هل كان يمكن للوحي أن يتنزل على عقل خامل لا شك فيه ولا تساؤلات؟ هل كان يمكن أن ينمو الإيمان في عقل لم يعرف الشك، ولم يتقلب بحثاً عن يقين، ولم يشك بالمسلمات، ولم يلحد بالشرك الغيبي المتوارث؟ لا طبعاً.

الإيمان الإبراهيمي بدأ من الشك بمسلمات قومه، واليقين يبدأ من السؤال. والوحي الإلهي لم ينزل إلا على عقل متسائل، إذ لا يكتمل الإيمان إلا هناك.

أبو الأنبياء وأول المسلمين

هذا المحور شديد الأهمية هو الذي ركز عليه الخطاب القرآني، فإبراهيم- بنص الخطاب- هو أول المسلمين. والإسلام- هو ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن من المشركين، والرسالة الجديدة هي تتمة لرسالة إبراهيم الأولى والأصلية.

وعندما تكون رسالة إبراهيم قد بدأت من تخوم التساؤلات، ولم ينزل الوحي إلا بعد خوضه لتلك التجربة المثمرة: تجربة الشك والتساؤلات، فإن هذه البداية، تطبع- بطريقة ما- الرسالة الإسلامية ككل، باعتبارها الوريث الشرعي للرسالة الإبراهيمية.

الإسلام إذن بدأ من التساؤل المطلق أمام الحقائق الكونية. من رفض القبول المسبق الغبي الخالي من التمحيص والبحث.

ولذلك يعلق الخطاب القرآني على رحلة التساؤل التي خاضها إبراهيم، لتكون التربة الصالحة لنزول الوحي “وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ” (الأنعام: 83) الحجة هي العقل، عقل إبراهيم المنفرد السابق لنزول الوحي، هو الحجة الأولى، وتأمل ارتباط هذه الحجة بالحكمة والعلم مرتبطان، بل ناتجان عن العقل. الحجة التي أقامها الله على البشرية، وإبراهيم على نفسه أولاً، وعلى قومه ثانياً..

ليطمئن قلبي..

لكن علاقة التساؤل بالإيمان في منهجيه الخطاب القرآني ليست علاقة أولية تبدأ حتى تنتهي. فالسؤال هنا ليس إضاءة خاطفة تضئ الدرب لوهلة ثم تنتهي إلى الأبد.

علاقة التساؤل بالإيمان، في الخطاب القرآني، علاقة صميمية ومترابطة، ولا تنتهي بالوصول إلى يقين نهائي، يتحول مع تقدم الوقت إلى يقين غبي ومتوارث، حاله حال البديهيات والمسلمات التقليدية. وعلى العكس مما هو متوقع من عقيدة دينية، فإن الخطاب القرآني يقدم أباً الأنبياء- إبراهيم- وبعد لحظة يحاول من خلالها إعادة النظر والتقييم، ويصل من خلالها، إلى ذروة الإيمان التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التساؤل.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (البقرة: 260). فإبراهيم لم تمنعه مكانة الوحي الإلهي التي يتلقاها، والمكانة الرسولية التي تبوأها من أن يعلن صراحة عن حاجته إلى إعادة النظر، عن عدم طمأنينة تشوب أفكاره وقلبه وعقله، عن تساؤل يقترب من الحدود الخطوة، وعن شك لا يزال يحتاج معه إلى بحث.

وبالتساؤل وحده وصل إلى اليقين النهائي، وصل إلى طمأنينة القلب، الذروة العالية من الإيمان التي كان يصبو إليها. وصل بالتساؤل الذي لا يمثل مجرد محطة عابرة في إيمان أبي الرسل والأنبياء، بل يمثل العلامة الأهم- قرآنياً- في مسيرته الرسولية.

ومن الواضح عبر السياق الوارد في الخطاب القرآني أن هذا التساؤل الإبراهيمي كان بعد نزول الوحي عليه، لا كما كان في السياق الأول الذي مهد لنزول الوحي.

ولعل هذه النقطة تتوضح أكثر إذا ما استرجعنا أن السياق نزل في الفترة المدنية، على العكس من السياق الأول المكي النزول. فهنا أيضاً يذكر الخطاب في أوج الفترة المدنية، فترة نزول آيات الأحكام وتقوية أسس نشوء الدولة الإسلامية، بأهمية إعادة النظر وتجديد التقويم، وربط ذروة الإيمان بحالة التساؤل والشك الإيجابيتين، والتي تسهم في تأصيل الإيمان وتعميق جذوره، لا الإحاطة به كما قد يتصور بعضهم.

سؤال لا يُسأل…

ويستخدم الخطاب القرآني- أنموذجاً آخر- لتعميق فكرة التساؤل في ذهنية المتلقي قيد التكوين، وهو أنموذج لا يقل مكانة عن إبراهيم- ولعل ذكره قد ورد أكثر مما ورد ذكر إبراهيم.

إنه موسى عليه السلام؛ رسول آخر من أولى العزم وكليم الله- كما يلقبه الموروث الإسلامي- وصاحب شريعة، وحفيدٌ آخر من أحفاد الرسول الأول إبراهيم.

فموسى سأل الله ما لا يُسأل عادة؛ وهو أن يراه “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ” (الأعراف: 143).

وهذا السؤال كانت له معطيات واقعية منسجمة مع الرؤية التجسيمية التي كان العبرانيون يؤمنون بها، أي أن سؤال موسى لم يكن ترفاً جدلياً، بل محض انسجام مع الواقع ومتطلباته، وفي كلتا الحالتين (إبراهيم وموسى) يأتي الجواب الإلهي بصورة عملية بليغة؛ الطير الذي يعود إلى الحياة والجبل الذي يندك وهما مثالان على أجوبة إلهية لتساؤلات وشكوك إنسانية على ألسنة الرسل.. والمثالان يعطياننا معاً صورة رائعة لرؤية قرآنية مغايرة تماماً. فالأسئلة والشكوك هنا لا تساور الكفار وأعداء الرسل. بل تأتي على ألسنة الرسل وتجوب في أفكارهم وعقولهم، وهم لا يترددون في الإفصاح عنها لذاك الذي يعلم ما في الصدور والعقول.

والأجوبة الإلهية لا تأتي بشكل صواعق تحرق حناجر الرسل الذين تجرؤوا ونطقوا بالسؤال، أو بزلازل تبيد القرى وتفني عقب الرسل، كما عودتنا الرؤية التوراتية، كما أنها لا تأتي بأجوبة نظرية حكم بليغة أو أمثال مأثورة، لتكسب الأجوبة وتقمعها، وتقيد العقل الذي صدرت عنه بأسوار التأويلات والمجاوزات والتهويلات.

بل تأتي الأجوبة لتوجه السؤال نحو الطبيعة: مظاهرها وظواهرها. وأشكالها وقوانينها. الطير والجبل شكلان من أشكال الطبيعة، جاء الوحي الإلهي ليوجه السؤال الرسولي نحوهما، ففيهما الجواب.. وهنا- مرة أخرى- يكون للعقل الذي سأل، دور في الجواب عن هذا السؤال.

 إن السؤال الذي عذب إبراهيم وأرق موسى لن يجد جواباً مباشراً من قبل الوحي الإلهي، بطريقة تجعله مجرد شاهد سلبي، بل سيأتي الجواب بطريقة تستدرج العقل نفسه في إبداع الجواب وتكوينه. وتدربه على عمليات عقلية مؤسسة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، ليصل بنفسه إلى الجواب الذي طرحه.

وهنا بالذات توضح أهمية (طمأنينة القلب) التي حازها إبراهيم، و(الأولوية على المؤمنين) التي حازها موسى.. إن هذه المرتبة لم تأتِ اعتباطاً، لم تكن هبة إلهية دونما جهد بذله العقل الإنساني، لقد كانت نتيجة لبحث وجهد وتأملات، ولم تكن- بالتأكيد- نتيجة لتسبيح أو استغفار لفظي أو تكرار لصلوات معينة طوال الوقت.

التساؤل الإيجابي إذن، هو الذي لا يقف عند دهاليز الحيرة، بل يعمل على تجاوزها كي لا يتحول إلى (لا أدرية) يضيع فيها الجهد والعمل..

التساؤل بهذا المعنى، قد يفتح باب اليقين النهائي، لا الضياع والإلحاد كما يحاول البعض أن يوهمنا. وبالنسبة إلى الخطاب القرآني، الذي عمل على تشكيل عقل الفرد المسلم وتكوين شخصيته، فإن هذه المسألة كانت بالغة الأهمية والتأثير. لقد كرست هذه الرؤية مسألة التساؤل في عقل الفرد المسلم عبر المثل القرآني ومن غير مبالغات في الخطابة.

إنه التساؤل الذي منه بدأ الإيمان الأول: إيمان الجد إبراهيم.

الهامش:

[1] نسبة إلى سبأ اليمن.

__________________________________

المصدر: بتصرف يسير عن كتاب البوصلة القرآنية، د. أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط3، 2010

[ica_orginalurl]

Similar Posts