أ. د. حسين عبد الغني أبو غدة

السماحة هي: السهولة والليونة والمرونة، يقال: رجل سَمْحٌ: ليِّنٌ، سهلُ المعاملةimagesCAMNFQ1I لا عُقَد فيه، ومثلُ ذلك التيسير، يقال: يسَّر الرجل الأمر: سهَّله ولاَن فيه ولم يتشدد، ومنه الحديث الذي رواه الشيخان: “يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا”.

دعوة الإسلام إلى التسامح والتيسير

السماحة والتيسير من الصفات التي تحبها النفوس وتنجذب إليها القلوب بسلاسة وطواعية واختيار، وإذا ما تحققت هاتان الصفتان في إنسان ما، كانتا عونا له على الوصول إلى قلوب الآخرين وكسب ثقتهم وودِّهم والتأثير فيهم، ولا غَرْو بعد هذا أن نجد الإسلام يدعو إليهما ويرغِّب فيهما ويثني على من اتصف بهما، قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانْفضُّوا من حولك} (آل عمران: 159).

وإن المتتبع لما في الكتاب والسنة ليُسرُّ من غزارة النصوص، التي ترسم معالم هدي الإسلام واهتمامه بالسماحة، ودعوته إلى التيسير في عامة الأمور التشريعية والاجتماعية والمعيشية، ولعل أجمع وأوفى عبارة تدل على هذه المعالم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد: “إني أُرسِلت بالحنيفية السمحة “.

أثر السماحة في سرعة انتشار الإسلام

مما لا شك فيه أن للسماحة والتيسير أثرا واضحا في سرعة انتشار الإسلام ودوام بقائه بين الأمم والشعوب التي اعتنقته، والتاريخ يشهد أن سرعة امتثال الأمم للشرائع ودوامهم على اتِّباعها، إنما كانت على مقدار اقتراب تلك الشرائع من السماحة والتيسير، فإذا بلغت بعض الشرائع من الشدة حدا يتجاوز أصل السماحة، لحقت الشدة والمشقة والعنت بأتباعها، ولا يلبثون إلا أن ينصرفوا عنها أو يفرطوا في بعض تعاليمها …

وتفاديا من الوقوع في هذا الجانب السلبي وصَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري حينما أرسلهما داعيَيْن إلى اليمن وقال لهما: “يسِّرا ولا تعسِّرا، بشِّرا ولا تنفِّرا” (رواه الشيخان).

وما لنا نذهب بعيدا وأمامنا ما يمثِّل هذا المعنى أوضح تمثيل ويبيِّنه أجمل بيان، ألا وهو ما وقع للأعرابي الذي بال في المسجد بمحضر من النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمْع من أصحابه، الذين همُّوا به أن يضربوه زجرا له، ويقطعوا عليه بوله احتراما وتقديسا للمسجد، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجَّههم إلى ما هو خير، روى البخاري وغيره أن أعرابيا قام فبال في المسجد، فهُرِع إليه الناس ليقعوا به، فرآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: “دعوه، لا تزْرِموه (لا تقطعوا عليه بوله)، وهَريقوا على بوله سِجْلا (دلوا) من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعَثوا معسِّرين”.

لقد اعتبر هادي البشرية أن زجره أو تعنيفه -مع أنه يبول في المسجد- بعيد عن التسامح والتيسير اللذيْن جاء بهما الإسلام، بل هو داخل في التشدد والعسر اللذين لا يتوافقان مع منهج الإسلام وتشريعه، فضلا عن أنه -صلى الله عليه وسلم-  لو ترك الحاضرين يفعلون ما أرادوا من منع الأعرابي من إتمام بوله، لأصيب في صحته الجسدية والنفسية مما يلحقه من الاحتقان، وكان من المتوقع أيضا أن يشرد عن الإسلام بسبب ما لقيه من إغلاظ القول وتهديد المسلمين له، في حين أن علاج أثر البول أمرٌ يسير؛ إذ يُصَبُّ عليه دلوٌ من الماء فتزول النجاسة، وما أهون الدلو من ماء يدفع المفسدة ويحفظ للإسلام رجلا، ويُعلن عن سماحة هذا الدين إلى آخر الزمن!.

أبدية استمرار السماحة والتيسير في الإسلام

لقد حافظ الإسلام -ولا يزال- على استدامة وصف السماحة والتيسير لأحكامه، فما من أمر تعتريه شدة أو مشقة غير عادية إلا انفتح إمامه باب التيسير والرخصة والسماحة، حتى لو كان فيه الكفر بالله تعالى ظاهرا لا حقيقة، قال الله تعالى: {إلا من أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان}.

ومن هذا القبيل أيضا: قول الله تعالى: {إنما حَرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهَلَّ به لغير الله فمن اضُّطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} (البقرة: 183).

بل إن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- دعا إلى الإقبال على رخص الله تعالى ورغَّب في إتيانها أبد الدهر في عموم ظروفها الزمانية والمكانية فقال: “إن الله يحب أن تُؤتى رخَصه كما يكره أن تؤتى معصيته” (رواه أحمد والدارقطني). وفي رواية أخرى للطبراني قوله: “ليس من البرِّ الصيامُ في السفر، وعليكم بالرخصة التي أرخص الله لكم فاقبلوها”.

 

نماذج وصور من سماحة الإسلام مع المسلمين الجدد

عمل الإسلام على التدرج في دعوة الناس إليه وتكليفهم بتعاليمه وتشريعاته؛ لأن ذلك أدعى إلى قبوله وترسيخ العمل بتشريعاته وأحكامه وفضائله واحدة بعد الأخرى، ومما يذكر في هذا المقام ما رواه الشيخان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: “ادْعُهم إلى شهادة أن لا اله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم “.

ففي هذا الحديث لم يعمد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تكليف المدعوين إلى الإسلام بكل تشريعاته وأحكامه دفعة واحدة وعلى الفور وفي وقت واحد، وإنما يسر لهم الأمر، وتدرج معهم شيئا فشيئا حتى يرغِّبهم في الإسلام ويحببهم به …

وفي حادثة أخرى رواها أحمد أن شابا قال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا ؟ فصاح الناس به، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قرِّبوه، فدنا منه حتى جلس بين يديه، فقال له: أتحبه لأمك ؟ فقال الشاب: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم . أتحبه لابنتك ؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك ؟ حتى ذكر العمة والخالة، والشابُّ يقول في كل مرة: لا، جعلني الله فداك … ثم وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصِّن فرجه، قال: فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا .

وهكذا استوعبت سماحة الإسلام هذا الشاب ورغباته الجنسية الجامحة، واستطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخلصه من صياح أصحابه وإيذائهم له، ويكسـبه فردا صالحا وعضوا نافعا في المجتمع، وذلك بما بذله معه من حوار هادئ يعتمد على العقل والمنطق بعيدا عن الصياح والعنف والشدة.

 

صور من سماحة الإسلام في التعامل الاجتماعي

حث الإسلام على التسامح والتيسير في عموم معاملات الناس، ومن صور التسامح في مجال العلاقات الاجتماعية: دعوة الإسلام إلى تفقد الأهل والأصحاب وترغيبه في السؤال عنهم وصلتهم ومبادرتهم بالزيارة، وإن كانت منهم قطيعة وهجران وإساءة… روى الحاكم وصححه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ثلاث من كن فيه حاسـبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته، قيل: وما هي يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ قال: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمَّن ظلمك” .

ومن هذه السماحة: الدعوة إلى بر المسالمين من غير المسلمين، والإحسان إليهم وصلتهم بالمال والهدايا ونحوها، فربما كان ذلك سبيلا إلى تعرفهم على الإسلام ومحاسنه وفضائله ودخولهم فيه عن قناعة ومعرفة وحب ورغبة، قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة: 8).

ومن هذه الوقائع أيضا ماروا ه الشيخان: أنه كان لعمر بن الخطاب أخ غير مسلم قد بقي على دينه، فأهداه عمر ثوبا من حرير، كان قد أعطاه إياه النبي -صلى الله عليه وسلم- .

 

صور من سماحة الإسلام في التشريعات الأسرية

تعتبر الأسرة حجر الزاوية في البناء الاجتماعي، ولذلك أولاها الإسلام عنايته وحباها بيسره وسماحته في جميع المراحل والمواقف التي تمر بها، ومن ذلك سماحه بنظر المخطوبَيْن إلى بعضهما وحثه على ذلك؛ ليكون أعوانا لهما على مزيد من التآلف والتقارب النفسي والتفاهم الحياتي في المستقبل، روى الشيخان أن المغيرة بن شعبة خطب امرأة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “انْظُر إليها، فإنه أَحْرى أن يؤدم بينكما “.

ومن الأمور الأسريـة التي حظيت بالسماحة الإسلامية: تقليل المهور وعدم المغالاة فيها؛ فقد حث الإسلام على تيسير الزواج وأسبابه على الشباب الذين لم يتوغلوا بعد في الحياة ويجمعوا من أموالها وثرواتها، وفي الحديث الذي رواه أحمد: “إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة “.

وخلاصة ما سبق أن سماحة الإسلام تسع الناس جميعا، وهي من عوامل انتشاره وبقائه حيا نابضا إلى اليوم، وهذه الحقيقة هي ما تضيق بها صدور كثير ممن لم يفقهوا الإسلام، ولم يتعمقوا في دراسته ومعرفة تشريعاته ومقاصده، فحسبوه شدة وعنفا وخشونة وغلظة مع الآخرين…

لقد شملت هذه السماحة الإسلامية الكبار والصغار، والرجال والنساء، والمتعلمين والأميين، وأهل الحاضرة وأهل البادية، في الأمور الخاصة والعامة، وفي الأمور التشريعية والاجتماعية، والمعيشية والشخصية…

ولا يزال الإسلام يشمل بسماحته الأعداء مثلما يشمل الأصدقاء، أو ليس النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- هو القائل لقريش في فتح مكة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وهم الذين عذبوه وآذوه وقتلوا بعض أصحابه وكادوا له ولدعوته وأخرجوه من مكة بلده.

فما أعظم الإسلام، وما أجمل تعاليمه وقيمه!!

** المصدر: موقع رسالة الإسلام.

[ica_orginalurl]

Similar Posts