يقدم الكاتب في سلسلته صورا للأمثلة في كتاب الله عز وجل، ويقدم لها شروحا مبسطة، ويتحدث في هذه المقالة عن أمثلة الماء في القرآن الكريم وتنوعها واختلافها…

أ.د. عمرو شريف

أمثلة الماء في القرآن

“وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّات وَحَبّ الْحَصِيد”

     قال تعالى: “وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ” (يس:33-35).

وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّات وَحَبّ الْحَصِيد” (ق:9)

… وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ“(الحج:5).

وتضرب هذه الآيات الثلاث مثلاً من “عالم الشهادة”؛ فالأرض الجدباء الهامدة الخالية من الزرع تتفجر فيها العيون أو ينزل عليها المطر فتنتعش بالحياة.

  وإذا انتقلنا بهذا المثل إلى “عالم المعاني” وجدنا أن القلوب الجدباء الهامدة الخالية من الإيمان، إذا غمرها ماء العلم، انتعشت بالحياة وأنبتت الإيمان واليقين.

 ونفس المثل ينطبق على “عالم الغيب” فعند البعث يسقى ماء الحياة، الأجساد الميتة فتنتعش ومن ثم فالمثل بينة على إمكانية البعث والنشور.

 وما هذه المستويات من المعاني إلا امتداد للأفعال والأسماء والصفات (المحي المميت – المعطي الوهاب) التي هي تجليات للذات الإلهية.

 إنه مثل من عالم الشهادة ، يجسد مفعول العلم في عالم المعاني، ويستحضر حدث البعث من عالم الغيب، ويربط هذه العوالم جميعاً بالأفعال والأسماء الصفات، ثم بالذات الإلهية:

ما زلنا مع أمثلة الماء في القرآن الكريم:

 “أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ” (الرعد:17)

 في هذه الآية، يضرب  الله عز وجل مثلين من عالم الشهادة، الأول، ماء المطر الذي يجري في الأودية، والثاني.. المعادن التي تُصهر بالنار؛ فالماء الجاري والمعادن المصهورة فيها ما هو نافع للناس وفيها الزَّبد الذي يطفو على السطح ولا فائدة منه.

 وإذا سحبنا المثال على عالم المعاني، وجدنا الإمام أبا حامد الغزالي يؤول الماء بالقرآن الكريم، والأودية هي القلوب، وأما الزّبد فهو الكفر والنفاق، فبالرغم من ظهوره على سطح الماء فإنه لا يثبت ولا يفيد، أما الهداية فهي ما يثبت وينفع الناس. ويطبق المعنى نفسه على المعادن المصهورة.

ويؤول الإمام الرازي الماء بالعلم الذي أعطى الله عز وجل الرسل منه أودية تفرعت أنهاراً من العلماء، الذين أعطوا العامة جداول صغيرة على قدر طاقاتهم (= بقدرها).

 وإذا حملنا مَثَل الماء إلى عالم الغيب، وجدنا القرآن والعلم (ومثلهما الإيمان واليقين والعمل الصالح و..) لا ينفعان أصحابهما، بل يذهبان جفاء، ويذهبان بهم إلى الجحيم.

 إنهما مثلان من عالم الشهادة (الماء ومصهور المعادن) يجسدان تأثير الصالحات وكذلك الطالحات على الإنسان من هداية وضلال (عالم المعاني)، ويجسدان أيضاً تأثيرهما عليه في الحياة الآخرة (عالم الغيب).

 وما هذه المستويات من المعاني إلا امتداد للأفعال والأسماء والصفات (النافع الضار)، التي هي تجليات للذات الإلهية.

ويضرب القرآن الكريم مثلاً بهيئة أخرى من الماء وهي “الغيث”:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ“(الحديد:20).

في الآية الكريمة، يمثل الله عز وجل الحياة الدنيا بالغيث وما يتبعه من أحداث: فما أن يهطل المطر، ينبت الزرع وينضج، ثم تعود الأرض إلى سابق عهدها من الموت بعد أن تجف أعواد النبات.

ومن هذه الصورة ننتقل إلى (عالم المعاني)، فالحياة الدنيا، يستمتع فيها الكفار بكل أنواع المتع. وفي لحظة، ينضب معين المتع ويفارق الإنسان الحياة بالموت. لكن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد كما في مثال الغيث والنبات، بل للكفار مآل مظلم بعد رحلة الدنيا، في مقابل المغفرة والرضوان من الله عز وجل للمؤمنين (عالم الغيب).

 وكما أن انتعاش الأرض بالغيث ودورة النبات فيها خدعة (غرور) إذا اعتقد الإنسان بدوام الحال، إذ الحقيقة أنها تعود لسابق عهدها من موت، كذلك فإن الحياة الدنيا خدعة أكبر، إذ لا تنتهي بالموت، بل يعقب ما فيها من متع مآل مظلم للكافرين .

إنه مثال من عالم الشهادة (غيث ونبات، ثم حطام)، ينسحب على عالم المعنى (لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ثم الموت)، ليصل بنا إلى عالم الغيب بما فيه من عذاب أو مغفرة ورضوان.

 وهيئة ثالثة للماء، يضرب بها القرآن الكريم المثل، وهي “الطوفان”:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ” (العنكبوت:15).

في عالم الشهادة، أهلك طوفان نوح عليه السلام الكافرين من قومه، وأنجاه الله ومن ركب معه السفينة من المؤمنين.

 وينسحب المثل على (عالم المعنى)، فكل الرسالات السماوية والأنبياء والرسل كانوا بمثابة سفينة النجاة لأقوامهم، نجا من ركبها، وهلك من تخلف عنها.

وفي (عالم الغيب) يحمل طوفان الكفر الظالمين لأنفسهم إلى جهنم، ويفوز المؤمنون الذين تحملهم سفينة الإيمان إلى الجنة.

 إنها قصةٌ “آية” دروسها وعطاؤها باقية للبشر على يوم القيامة.

سبحان ربي..

______________________________________

المصدر: د. عمرو شريف، الوجود رسالة توحيد، القاهرة، نيوبوك للنشر والتوزيع، ط1،2015

[ica_orginalurl]

Similar Posts